حتى في أكثر
الأزمات تعقيدا يترك الساسة دوما نافذة
مواربة؛ يمكن من خلالها فتح باب الحوار بالشكل الذي يسمح للجميع بحفظ ماء الوجه
والعودة لطاولة النقاش أو المفاوضات. ولولا ذلك لتحولت حدود الدول كلها إلى كتل اسمنتية
أو خرسانية عصيّة، وأجواؤها إلى فضاءات مغلقة غير قابلة للعبور. تاريخ العالم يشهد
ويوثق لحروب وصراعات خلفت من المآسي والكوارث ما لا يتحمله بشر، لكن ذلك لم يمنع
الأطراف المتصارعة من العودة لجادة الصواب وطرح الإشكالات والبحث عن الحلول لما
أمكن حله، وترك ما استعصى عن الحل للزمن لعله يسمح بتآكل حدة المواقف وتقريبها.
من
الجزائر، أعلن الرئيس عبد المجيد تبون، ما يكرسه
الواقع فعليا، من أن
العلاقات الجزائرية
المغربية وصلت، من وجهة النظر الجزائرية،
لنقطة اللا رجوع؛ تصريح يؤكد كيف أن النظام الحاكم بالجزائر يعتبر صراعه
"الموهوم" مع المغرب
صراع وجود. تتحجج الجزائر دوما بما تسميه الأطماع
التوسعية للمخزن المغربي وسعيه الدائم للإضرار بجارته الشرقية، وفق نظرية المؤامرة
التي ما فتئ يروج لها. وفي وثيقة الإعلان عن قطع العلاقات، من جانب واحد، عدّد
الخطاب الرسمي مختلف المحطات التي اعتبرها تأكيدا للأطماع المغربية وتحالفه مع
الأعداء. ولأن الصراع صراع وجودي فلا سبيل غير التأكيد على ضرورة الالتزام بالحدود
الموروثة من الاستعمار؛ هذا الاستعمار نفسه الذي نحمّله الأوضاع المؤسفة التي فرقت
بين الجيران، وبين أبناء الأمة الواحدة التي فتتها لدويلات صغيرة تارة، وضخّم
أحجام دول على حساب حقوق ترابية تاريخية لا يرقى الشك إليها؛ تارة أخرى.
تتحجج الجزائر دوما بما تسميه الأطماع التوسعية للمخزن المغربي وسعيه الدائم للإضرار بجارته الشرقية، وفق نظرية المؤامرة التي ما فتئ يروج لها. وفي وثيقة الإعلان عن قطع العلاقات، من جانب واحد، عدّد الخطاب الرسمي مختلف المحطات التي اعتبرها تأكيدا للأطماع المغربية وتحالفه مع الأعداء
تجربة المغرب مع الاستعمار تبدو عصية على الفهم لدى
كثيرين. التاريخ يقول إن المغرب كان البلد الوحيد الخارج عن سيطرة الإمبراطورية
العثمانية التي امتدت حتى الحدود الشرقية للبلاد، والتاريخ يقول إن البلاد خضعت
لاستعمار دولتين اثنتين تقاسمتا أراضيه مع منطقة دولية ممثلة في مدينة طنجة في
الشمال. تصفية الاستعمار تمت والحالة هذه على مراحل وفق اتفاقات وتفاهمات، لكن
المشترك بين الجزائر والمغرب كان تجربتهما مع الاحتلال الفرنسي وإن اختلفت
السياقات والنهايات، لأجل ذلك يختلف البلدان في تقييم ثقل الذاكرة الاستعمارية في
التأسيس لعلاقاتهما البينية ولعلاقاتهما مع المستعمر السابق على حد سواء.
في السنوات الأخيرة، عاد موضوع الذاكرة ليقض مضجع
العلاقات الفرنسية الجزائرية، لدرجة أن الرئيس ايمانويل ماكرون نفى في تصريحات منسوبة
له وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وأضاف أن الجزائر أنشأت بعد استقلالها
"ريعا للذاكرة" كرسه "النظام السياسي العسكري المنهك بسبب الحراك".
وأكد في تصريحات أخرى أنه غير مجبر على الاعتذار على الفترة الاستعمارية وما خلفته
من مآسٍ على الجانبين. جماجم المقاومين المحتجزة بالمتاحف الفرنسية لا تزال شاهدة
على عمق الصراع الذي ميز العلاقة بين البلدين.
ولعل في البيان الذي أصدرته الرئاسة الجزائرية، قبل
أسابيع، على وقع عملية إخراج ناشطة سياسية تحمل جنسيتي البلدين من تونس تحت
الحماية القنصلية لباريس، تأكيد لذلك، حيث استعاد كلمات بوقع وحمولة تاريخيين مؤلمين
من قبيل "الباربوز" و"عملية خليج الخنازير"، بما يعنيه ذلك من
اتهام مباشر للمخابرات الفرنسية بالسعي للإطاحة بالنظام. والباربوز هو الاسم الذي
كان يطلق على عملاء سريين قتلة جندتهم السلطات الفرنسية، في عهد شارل ديغول،
لمواجهة نشطاء المنظمة السرية في الجزائر والقضاء عليهم، قبل أن يحل وزير الداخلية
هذا التنظيم في العام 1962.
بعد تصريحات ماكرون، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021،
استدعت الجزائر سفيرها بباريس ثم عاد دون أن يصدر عن الرجل ما يفيد الاعتذار. وبعد
أزمة الناشطة أميرة بوراوي، في شباط/ فبراير 2023، استدعت الجزائر سفيرها بباريس
ثم
أعلنت عودته بعد اتصال هاتفي بين الرئيسين سمح "بإزالة سوء الفهم" الذي
رافق الموضوع. ولم تكن هاتان المناسبتان الوحيدتين، في عهد الرئيس تبون، وعاد فيهما
سفير الجزائر إلى باريس بعد استدعائه، بل سبقتهما عودة في أيار/ مايو 2020 على
خلفية بث قناة عمومية فيلما عن الحراك الشعبي اعتبرته السلطات "تهجما على
الشعب الجزائري ومؤسساته، بما في ذلك الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير
الوطني".
السفير الجزائري العائد اليوم إلى باريس ليس سوى سعيد
موسي، الذي كانت السلطات الجزائرية قد سحبته من مدريد غداة موقف الحكومة الإسبانية
من قضية
الصحراء المغربية ضدا على كل مواقفها السابقة، وهو ما أثار غضبا جزائريا
غير مسبوق انتهى بتعليق اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين البلدين وغيرها من
الإجراءات الأخرى.
نقطة اللا رجوع التي تحدث عنها الرئيس عبد المجيد تبون، تعني بما تعنيه مزيدا من شحذ الهمم وتسخير الإمكانات السياسية والإعلامية للإضرار، وإن تطلب ذلك استحضار معلومات تاريخية لم يسبق تداولها
سعيد موسي ما كان له أن يعود إلى إسبانيا حيث كان يمارس
عمله قبل الاستدعاء، وما كان للسفير لحسن عبد الخالق أن يعود إلى الجزائر العاصمة
لممارسة مهامه ممثلا للمغرب، لأن الديبلوماسية الجزائرية صارت توجّه بوصلتها، ليس
اعتمادا على العداء للجزائر وتاريخها وثوابتها، بل المعيار مرتبط بشكل يبدو
"مرضيا" بالموقف من قضية الصحراء المغربية، لأنها تعتبر تلك القضية خطرا
وجوديا عليها، لما تخفيه من مطالبات مستقبلية ممكنة أو متوهَّمة لاستعادة الصحراء
الشرقية التي يتم التلويح بها، في المغرب، من حين لآخر عبر التصريحات غير الرسمية
أو صفحات الجرائد والمجلات؛ تلويح تدعمه تصريحات ماكرون السابقة وتعززه، لكن ذلك
لن يمنع أبدا من "بحث سبل تقوية وتعزيز التعاون بين البلدين، بما في ذلك
زيارة الدولة المقبلة التي سيؤديها تبون إلى
فرنسا"، كما جاء في بيان الرئاسة
الجزائرية. تآمر فرنسا التي تؤوي المعارضين للنظام والحركات التي يسميها
بالانفصالية أوهن من تآمر المغرب، الذي تدعم الجزائر منذ خمسة عقود تنظيما مسلحا
مناوئا لوحدته الترابية باسم مبادئ الثورة التي دعّمها المغرب وآوى جنودها
وضباطها، وهذا كان ولا يزال جوهر القطيعة المعلنة والخفية بين البلدين.
نقطة اللا رجوع التي تحدث عنها الرئيس عبد المجيد تبون،
تعني بما تعنيه مزيدا من شحذ الهمم وتسخير الإمكانات السياسية والإعلامية للإضرار،
وإن تطلب ذلك استحضار معلومات تاريخية لم يسبق تداولها وعلى لسان المتوفين من
أمثال الجنرال فرانكو، أو اعتبار مبادرات دول شقيقة لفتح ممثليات قنصلية لها بمدن
الصحراء مجرد فلكلور سياسي، سبقه رفض لكل الوساطات لحل الأزمة مقابل عرض وساطات
لحل أزمات مستعصية. والأخطر إطلاق الاتهامات بسعي المغرب
لزعزعة استقرار تونس، وكأن ما تشهده المنطقة من انقسامات وخلافات لم يعد يكفي.
وا أسفاااه..