الفتية النجوم:
في مساء يوم 15 آب (أغسطس) الجاري يستشهد فتيان إانان من أبناء القدس؛ هما نسيم أبو رومي وحمودة الشيخ في الرابعة عشر من عمرهما، في هجوم على جنود صهاينة في الأقصى، ليتابعا مسيرة البطولة والتضحية في جيل جديد، يؤكد استمرار سلسلة الدفاع عن القدس والرباط في أكنافها.
هي خسارة كبيرة أن يفقد شعبنا وتفقد أمتنا أشبالا شجعانا مقدامين في عمر الزهور أمثال هؤلاء الفتية، قبل أن يحققوا النكاية المطلوبة المستحقة في العدو. وهي كما ذكر أحد الزملاء مسؤولية قوى المقاومة ومسؤولية المجتمع؛ ولكنْ، يظل ثمة فرق هائل بين أولئك الفتية النجوم، التي تشع في سماء القدس والأمة وتحمل مسؤوليتها وهمومها الكبرى، وتلقى الله وهي تحتضن السكين؛ وبين أولئك الذين شابوا وهم يحضنون رموز الاحتلال، ويلقون الله وهم غارقون في صفقات العار ومساوماتها.
قرن من الرباط والمقاومة:
100 عام مضت على أول أعمال المقاومة ضد المشروع الصهيوني في فلسطين، عندما ظهرت في بداية الاحتلال البريطاني جمعية "الفدائية" وجمعية "الإخاء والعفاف" (1919)، حيث كان في طليعتها القيادية علماء القدس ورجالها أمثال الشيخ محمد يوسف العلمي والحاج أمين الحسيني والشيخ حسن أبو السعود، ليمتدَّ بعد ذلك قرن من الإعداد والعطاء، الذي لا يتوقف دفاعا عن القدس وفلسطين.
و99 عاما مضت على أول انتفاضة في فلسطين، هي انتفاضة القدس أو انتفاضة موسم النبي موسى (1920)، حيث سقط بعض أوائل قتلى العصابات الصهيونية، وحيث ارتقى أوائل شهداء القدس وفلسطين.
وقبل 90 عاما، في مثل هذه الأيام (آب/ أغسطس 1929) يتذكر أبناء فلسطين ثورة البراق، أحد أوسع الانتفاضات التي شملت عموم فلسطين، وكان محركها الفعال الدفاع عن الهوية الإسلامية للمسجد الأقصى.
نحن أمام كيان صهيوني غاشم ترعاه قوى دولية طاغية، بينما تجثم أنظمة عربية وإسلامية على صدور شعوبها تمنع نصرة القدس وفلسطين.
و86 عاما مضت على انتفاضة 1933 التي انطلقت من الأقصى، و50 عاما مضت أيضا على حريق المسجد الأقصى، الذي نشأت في إثره منظمة المؤتمر الإسلامي، و23 عاما على هبة الدفاع عن الأقصى، و19 على انتفاضة الأقصى أحد أعظم انتفاضات الشعب الفلسطيني المعاصر( 2000 ـ 2005)، مرورا بانتفاضة القدس 2015 ـ 2017، وهبة باب الأسباط تموز/ يوليو 2017، وهبة باب الرحمة شباط / فبراير 2019.
وتوالت الاعتداءات كما توالت الانتفاضات وأهل فلسطين في رباط، والقدس في المركز، والمسجد الأقصى في القلب؛ قصة صمود أسطوري.. قصة عزيمة لا تلين.. قصة إبداع في أشكال وأنماط العمل المقاوم، يتموج صعودا وهبوطا، لكنه لا يتوقف. يُحاصَر ويُخنق، لكنه يكسر قيده ويقهر سجَّانه في كل مرة. يُعتَّم عليه، وتُحاول تضييعه أدوات إعلام عربي ودولي شوهاء مارقة، لكنه يعود ليفرض نفسه فرضا في المربع الأول لصدارة الأحداث، وعندما يحاول سياسيون العبث بالقدس، تُحرَق أيديهم بجمر القدس وتتحطم حساباتهم على رؤوسهم.
خمسة أجيال والعين تواجه المخرز، وفتية القدس ومرابطوها ومرابطاتها ينوبون عن الأمة ويقيمون الحجة على كل الأنظمة العربية والإسلامية الفاسدة المستبدة المتهالكة؛ هذه الأنظمة التي فَضَحَت القدسُ والأقصى قصورها وعجزها وخذلانها.
تصاعد العدوان وتصاعد الصمود:
نحن أمام كيان صهيوني غاشم ترعاه قوى دولية طاغية، بينما تجثم أنظمة عربية وإسلامية على صدور شعوبها تمنع نصرة القدس وفلسطين، وفي هذه الأجواء يسير المخطط الصهيوني؛ تهويد للأرض والإنسان وتزوير للتاريخ، وحفريات وأنفاق، وهدم للمساكن؛ وانفلات لجماعات المعبد في اعتداءات تحاول منذ سنوات تحقيق تقسيم زماني ومكاني للمسجد الأقصى، هذه الجماعات المدعومة مباشرة بنحو 15% من أعضاء الكنيست ونحو ثلث أعضاء الحكومة الصهيونية، فضلا عن الدعم غير المباشر من معظم القيادات السياسية الأخرى.
أعاد الصمود البطولي للمصلين في أول أيام عيد الأضحى المبارك (11/8/2019) الأقصى إلى واجهة الأحداث عندما حاول المستوطنون اقتحامه مدعومين بالقوات الخاصة الصهيونية
في الفترات الأخيرة، وخصوصا بعد اعتراف الأمريكيين بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارتهم إليها، زاد التغول الصهيوني وتسارعت أدوات تهويده، فتضاعفت اقتحامات المستوطنين، وتضاعفت وتيرة هدم منازل المقدسيين، التي كان من آخرها هدم نحو 80 شقة في وادي الحمص بصور باهر في القدس. وتحاط القدس بجدار عنصري عازل، ويحرم أبناؤها من التواصل مع محيطهم العربي والإسلامي، ويحاربون في أرزاقهم، وفي تعليمهم، وفي حركتهم، وفي مسكنهم، وفي شعائرهم الدينية؛ إنه القبض على الجمر بكل ما تعنيه الكلمة.
لقد أعاد الصمود البطولي للمصلين في أول أيام عيد الأضحى المبارك (11/8/2019) الأقصى إلى واجهة الأحداث، عندما حاول المستوطنون اقتحامه مدعومين بالقوات الخاصة الصهيونية، وصمد نحو ثلاثة آلاف مصلٍ ومرابط في وجههم. وبالرغم من أن القوة العسكرية الطاغية حاولت فرض نفسها، إلا أن مقاومة المصلين أضعفت اندفاعة المستوطنين وحجمتها، وسجَّل المرابطون توقيعهم وهويتهم وبصمتهم، وأثبتوا أنهم الحقيقة التي لا تغيب، والتي تكشف بطلان الاحتلال وزيف ادعاءاته.
لقد تجلى تصاعد المخاطر الصهيونية مؤخرا في تصريحات جلعاد أردان وزير الأمن الداخلي الصهيوني، الذي دعا إلى تغيير ما يعرف بـ"الوضع الراهن"، ليتمكن اليهود من الصلاة في المسجد الأقصى بشكل فردي وجماعي، وفي المباني والساحات، وهو ما يُعدُّ تهيئة لخطوة خطيرة باتجاه تغيير الحقائق على الأرض، بعد نحو 52 عاما من احتلال شرقي القدس (بما فيها الأقصى)، والعمل المنهجي الدؤوب لتغيير القدس وهويتها الدينية والحضارية والثقافية والمعمارية والسكانية، ولولا فضل الله سبحانه وتثبيته لأبناء القدس وفلسطين، لربما تمّ تهويد القدس والأقصى منذ أمد بعيد.
الآن الهجمة على الأقصى في أشدها، والحملات المسعورة في ظل البؤس والخذلان العربي والإسلامي تتزايد، ومحاولات الاستفراد بالقدس والأقصى تتسارع، وما زال "القابضون على الجمر" صامدين، وما زال أبناء "الطائفة المنصورة الثابتة على الحق" مرابطين، "لا يضرهم من خالفهم" لأنهم هم شرف الأمة، ولأنهم الممسكون بالبوصلة الحقيقية للأمة، ولأنهم مصدر عزتها وكرامتها، ولأن الله سبحانه ناصرهم في النهاية، ولأن من "خالفهم وخذلهم" هو من سيُكشف ويُفضح ويبوء بخزي الدنيا والآخرة.
تحية إلى القدس ومرابطيها، تحية إلى الشيخ رائد صلاح وإخوانه، تحية إلى كل الصامدين في فلسطين في وجه الاحتلال، وتحية إلى قوى المقاومة، وتحية إلى شعوبنا وأبناء أمتنا الداعمين للقدس وصمودها وجهادها.