يشكل وجود
إيران بصيغتها الراهنة فائدة حيوية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، فهي تمثل عدوا مثاليا يسهل تطويعه على مقاسات الشر. إذ تصور الجمهورية الإسلامية الإيرانية كنظام بربري فاشي طائفي عدواني؛ لا يمت إلى الحضارة الإنسانية بصلة، بل هو نقيضها.. لكن معظم هذه الصفات من نسيج المخيلة الاستراتيجية الأمريكية وصناعتها، وقد ساهمت سياسات الهوية للجمهورية الإيرانية بنصيب وافر في تغذية الخيال الأمريكي وصناعة الصور النمطية والوقائع المقولبة.
ورغم توصيف إيران كعدو لأمريكا وحلفائها في المنطقة منذ الثورة الإسلامية 1979، إلا أن ثمة اختلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الاستراتيجية الأفضل في التعامل معها، لكن السياسات المختلفة تدرك أن اختفاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية سوف يخلق معضلة لسياساتها في المنطقة.
برزت المعضلة الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع إيران بصورة فجة بين الإدارتين الديمقراطية والجمهورية، وظهرت الاختلافات إلى حد التناقض الظاهري. فبينما بدت سياسة الرئيس الأمريكي الديمقراطي السابق باراك أوباما تجاه إيران متعاطفة ومتفهمة لدورها الإقليمي، وتكللت بالتوقيع على الاتفاق النووي، جاءت سياسة الرئيس الأمريكي الجمهوري الحالي دونالد ترامب تجاه إيران؛ عدوانية وشرسة، وعملت على نقض ما حققه سلفه. وبات الحديث عن الخطر الإيراني انشغالا يوميا للإدارة الأمريكية، وغدت إيران تجسيدا للشر المطلق في العالم.
وقد تنفس أنصار الجمهوريين في الشرق الأوسط الصعداء مع ترامب، بعد أن تلبسهم القلق والخوف مع أوباما. ومع أن الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين يبدو كبيرا، إلا أن ذلك يقع في إطار الجدل حول الاستراتيجية الأكثر نجاعة في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط.
يبدو أن الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين قد بلغ مداه في عهد ترامب، وتشكل قضايا الشرق الأوسط، وفي مقدمتها القضبة الفلسطينية والمسألة الإيرانية، أحد محددات الخلاف والنزاع. ورغم أن الجمهوريين والديمقراطيين متفقون على أن الجمهوية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها 1979 تشكّل تحديا شاملا لمصالح الولايات المتحدة، وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط، حيث لم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود الجمهورية الإسلامية من الحديث عن الخطر الإيراني واعتبار إيران دولة راعية للإرهاب، وتعريفها كدولة مارقة، إلا أن وثيقة الأمن القومي التي وضعتها إدارة ترامب ذهبت أبعد من سابقاتها، وتخلت عن بعض المسلّمات المتعلقة بأسباب الصراع والتوتر في المنطقة.
فبحسب وثيقة ترامب، "على مدار عقود كان الحديث عن أن الصراع
الإسرائيلي الفلسطيني هو المحور الأساسي الذي منع تحقيق السلام في المنطقة، إلا أن اليوم يتضح أن التطرف الإرهابي الإسلامي الآتي من إيران قادنا لندرك أن إسرائيل ليست مصدرا للنزاع في الشرق الأوسط، وأن دولا أظهرت إمكانيات التعاون المشترك مع إسرائيل لمواجهة التهديدات الإيرانية".
وبهذا أصبحت الاستراتيجية الأمريكية التي وضعها الجمهوريون تقوم على إعادة تعريف المخاطر في المنطقة واختزالها بخطرين: الأول هو التنظيمات الإرهابية، والثاني الجمهورية الإيرانية. وقد تخلت عن فكرة أن السبب الرئيسي للأزمات هو الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما شجعها عليه حلفاؤها في المنطقة؛ ممن تخلى عن كون المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية سببا رئيسيا لعدم الاستقرار.
في هذا السياق، يرى الزميل البارز في دراسات الشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ستيفن كوك، في مقالة في مجلة "فورين بوليسي"، أن "الشرق الأوسط منقسم بين الجمهوريين والديمقراطيين"، فيما "السعودية بلد ترامب". فالصورة التي تخرج من الشرق الأوسط اليوم هي أن الدول الداعمة للجمهوريين تشمل إسرائيل ومصر والإمارات العربية المتحدة والسعودية، وهذا من ناحية تعاطف قادة الحزب والناخبين معها أكثر من تعاطف الديمقراطيين. ومنذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي، أصبحت إسرائيل في قمة اهتمامات الحزب الجمهوري التي لا يمكن مسها.
إن حالة الذعر والخوف من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتنظيمات الإسلامية؛ التي اجتاحت الأنظمة الدكتاتورية العربية عقب ثورات "الربيع العربي" إبان حقبة أوباما، دفعت الأنظمة التسلطية العربية إلى الاستسلام للرؤية الترامبية، وهي رؤية تتماهى مع الرؤية الإسرائيلية المتعلقة بإيران والمنطقة.
فحسب ستيفن وولت، في مجلة "فورين بوليسي"، فإن ترامب يقوم بالخروج من الاتفاقية بناء على رغبة بوضع إيران داخل "نقطة الجزاء"، ومنعها من إقامة علاقات طبيعية مع الغرب، والهدف هو توحيد إسرائيل، والجناح المتطرف من اللوبي الإسرائيلي (إيباك)، ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطية، والصقور الذين يمثلهم مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو، وهؤلاء يخافون مع حلفاء أمريكا في المنطقة من الاعتراف يوما ما بإيران، ومنحها مستوى من التأثير. فليست الهيمنة الإقليمية هي التي تريدها إيران، بل الاعتراف بأن لها مصالح إقليمية يجب التعامل معها، وهذا أمر بغيض على الصقور، الذين يريدون الحفاظ على عزلة إيران ونبذها للأبد". ويشير وولت إلى أن "الصقور يرون أن هناك طريقين لتغيير النظام، الأول من خلال ممارسة الضغط على إيران؛ أملا في حدوث انتفاضة شعبية تطيح بحكم الملالي. أما الثاني، فهو دفع إيران لاستئناف برامجها النووية، وهو ما يعطي واشنطن المبرر لشن هجوم عسكري عليها".
لقد أغرت حالة الانهيار التي أصابت العالم العربي الإدارة الأمريكية الجمهورية بوضع استراتيجية أمريكية كبرى للمنطقة؛ تشكل "صفقة القرن" أحد أركانها، بخلق عدو للمنطقة يتمثل بالمنظمات الإرهابية والجمهورية الإيرانية، وتحويل المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية إلى صديق وجزء من نسيج المنطقة.
فتكثيف التواجد العسكري الأمريكي في منطقة
الخليج ومضيق هرمز؛ يقع في سياق الاستراتيجية الأمريكية ا ورؤيتها للمنطقة، حيث تتطلب الاسترتيجية خلق عدو وشيطنته تحت مسمى الإرهاب المزعزع للاستقرار، كذريعة لشن الحروب وبث الطائفية في المنطقة، وهي استرتيجية متطابقة مع قوى "الثورة المضادة" لاحتواء "الربيع العربي" وضمان عدم انتقاله لبقية البلدان الدكتاتورية العربية. فقد استندت استراتيجية الثورات المضادة إلى ركنين أساسيين؛ الأول: يقوم على أسس سياسية تعتمد على مبدأ "الحرب على الإرهاب"، والثاني: يقوم على أسس هوياتية تعتمد على مبدأ "تفعيل الطائفية".
باتت كراهية كل ما هو إسلامي ومحبة كل ما هو إسرائيلي أحد أهم متطلبات الجمهوريين، وأنصارهم في الشرق الأوسط. فدونالد ترامب مغرم بكل ما له صلة بالحط من الإسلام والمسلمين، وتمجيد المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، إذ لا يدع مناسبة لإبراز كراهيته العميقة للإسلام ومحبته لإسرائيل، وتأكيده على ربط الإسلام بالتطرف والإرهاب، وربط إسرائيل بالديمقراطية والحرية. وغدت كراهية الإسلام والمسلمين، ومحبة إسرائيل، أحد أهم متطلبات تولي المناصب الرفيعة في إدارته. فمستشار الأمن القومي، جون بولتون، مولع بإسرائيل وكاره لأي صورة للإسلام والمسلمين، وقد اقترح سابقا قصف إيران من أجل إحباط برنامجها النووي. ومع عودته إلى البيت الأبيض، يبدو أنه يسير باتجاه الحرب مرة أخرى. ففي التاسع من أيار/ مايو الماضي، استعرض بولتون خطط حرب تم تحديثها بناء على طلبه؛ تدعو إلى إرسال 120 ألف جندي للشرق الأوسط في حال قيام إيران بهجمات عسكرية أو إعادة تفعيل برنامجها للأسلحة النووية. كما أن وزير الخارجية مايك بومبيو مواقفه حافلة بالعداء للعرب المسلمين، ودعمه لإسرائيل، وقد اشتُهر بمهاجمته للحكومة التركية واصفا إياها بالنظام الدكتاتوري، وأشار إلى أن "إيران وتركيا تقعان تحت حكم نظام إسلامي سلطوي وشمولي"، وهو يعتبر زعماء المسلمين في الولايات المتحدة متورطين مع الجماعات المتطرفة.
رغم الخلاف الكبير بين الديمقراطيين والجمهوريين حول التعامل مع إيران، إلا أن ثمة توافق على استبعاد خيار الحرب، فاختفاء إيران يخلق معضلة ولا يحقق مصلحة أمريكية. وحسب فالي نصر الذي كان مستشارا لوزارة الخارجية الأمريكية في إدارة باراك أوباما، في مقالة بمجلة "فورين أفيرز" في شباط/ فبراير 2018، ثمة فرضيتان مؤكدتان؛ الأولى أن إيران ليست سببا في الانهيار الذي حصل للنظام الإقليمي العربي في السنوات الأخيرة، والثانية أن إيران تستفيد من هذا الانهيار، ولذلك فإن حل معضلة الانهيار العربي ليس بالصدام مع إيران، ومحاولة احتوائها، فذلك لن يعيد الاستقرار للعالم العربي، ويكمن الحل بقيام الولايات المتحدة بالمزيد من إدارة الصراع، وإعادة التوازن إلى المنطقة، الأمر الذي "يتطلب منهجا دقيقا لا مباشرا، بما في ذلك العمل مع إيران وليس الصدام معها".
خلاصة القول أن سياسة حافة الهاوية التي يتبعها الجمهوريون تجاه إيران واستراتيجة الضغوط القصوى؛ لا تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة. فترامب يصر على استبعاد خيار الحرب، ويؤكد على أن سياسته تهدف إلى تغيير السلوك الإيراني وإجبار إيران على إبرام اتفاق جديد؛ يعالج الاختلالات التي تضمنها الاتفاق المبرم مع سلفه أوباما الديمقراطي، لضمان أمن المستعمرة الاستيطانية الاسرائيلية، الأمر الذي يؤكد على أن اختفاء إيران يشكل معضلة استراتيجية. فالوجود الإيراني يقدم بطرائق عديدة خدمات مجانية لأمريكا، وهو لا يشكل تهديدا فعليا للولايات المتحدة، وإن كان يشكل إزعاجا لحلفائها في المنطقة. ورغم انزعاج حلفاء أمريكا من السلوك الإيراني، إلا أن أمريكا لم تقم بأي محاولة جدية للحد من النفوذ الإيراني، بل إن سياسات أمريكا في المنطقة هي التي ساهمت في تمدد النفوذ الإيراني. فقد تعاونت مع إيران عقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان 2001، ونظام صدام حسين في العراق سنة 2003، وانتهت إلى تخليص إيران من عدوين لدودين، ومنعت من سقوط نظام الأسد في سوريا 2011.
وبهذا، فإن اختفاء إيران يعيد إلى الواجهة خطر "إسرائيل"، ومقتضيات اللعبة الاستراتيجية للحفاظ على أمن الأنظمة الدكتاتورية العربية وحماية المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية وتوطيد علاقاتهما؛ تقتضي خلق عدو مشترك يختزل بـ"الإرهاب" الممثل بالجمهورية الإيرانية الشيعية، والمنظمات الإسلامية السنية.