انتقل بالأمس إلى جوار الله وذمته؛ أول وآخر رئيس مدني منتخب في التاريخ
المصري الحديث، السيد محمد
مرسي. وأشعلت وفاته فيضانا من مشاعر الألم والأسى بين أحبابه، والشرفاء من خصومه، كما أظهرت مدى التردي والسفالة اللذين يمتاز بهما نظام عبد الفتاح السيسي الدموي والمنحط، عبر قيامه بتسليط سفلته الإعلاميين بخطاب بائس ووضيع يناسب مرحلة السيسي.
ذهب الرئيس إلى ربه، وكان قد دخل إلى قصر الحكم وهو لا يملك ثمن مسكن يتملكه، واكتفى بمسكن يستأجره، وأُخرج بعد عام بالغدر والخيانة، ولا يملك أيضا ثمن سكن خاص به، ولو كان يأخذ شيئا من تلك العمولات "القانونية" لا الرشاوى، لأصبح يملك الملايين في عام واحد. ويمكن النظر إلى ثروة أي وزير غير مهم في عهد مبارك لتبدو نزاهة يد الرجل.
ذهب الرئيس إلى ربه، وكان تحت رقابة غير اعتيادية، وتحت إشراف أكبر ضباط أجهزة الخيانة في النظام، وربما أكثرهم كفاءة، لكنهم رغم ذلك لم يقدروا على إثبات قصاصة صغيرة بها ما يدين ذمّة الرجل المالية، أو يدين أحدا من موظفيه طوال عام كامل من الحكم، فكان عفيف اليد، بعد تغوّل اللصوص والضباع. وما كان للص أن يبقى تحت إمرة نزيه، فقرروا التخلص منه.
ذهب الرئيس إلى ربه وهو محمّل بمسؤولية وطنه، وأخطأ كسائر البشر، لكنه لم يخن أمانته، ولم يتعمد الإضرار بوطنه، وسعى لحماية المنكوبين والضعفاء في سوريا وفلسطين، فلم ترضَ عنه حثالات الإقليم والنظام الدولي، فكان لا بد من التخلص منه، والسماح باعتلاء كرسي الحكم لوضيع يقبل ما يطلبونه، يستأسد على شعبه ويحني رأسه ويذل نفسه أمامهم، ولم يكن مطلبهم صعبا فنالوا بغيتهم بإقصاء الشريف وإعلاء الوضيع.
عرفته لسنوات معدودة، لكنه ذهب إلى ربه دون أن أعتذر منه على تقصيري في نصرته، فقد كان يتعرض لأقسى أنواع الإيذاء النفسي والبدني بحرمانه من رؤية أهله ومخالطة الناس وتناوله للدواء، ورغم ذلك كنت مقلّا في نصرته حتى لا اُحسب على الإخوان، وبئس ما قصدت ودفعني إلى التقصير بحق هذا المظلوم وأسرته.
ربما يكون سندي واعتذاري، مشفوعا بأنني رغم اختلافي لم أتظاهر ضده ولو مرة، ولم أدع إلى إسقاطه؛ لأن المعادلة كانت واضحة، إما مرسي وإما الانقلاب العسكري الذي لن يبقي ولا يذر، وقد كان.
وقف الرئيس الراحل في آخر خطاب متلفز له وهو يقول: "أنا عايز أحافظ على البنات، أمّهات المستقبل". وتذكرته في عام 2006 تقريبا، عندما اعتقل الأمن فتاتين من الجامعة، فذهب الرجل إلى مكان احتجازهما بجهاز مباحث أمن الدولة، وتفاوض معهم، ولم ينصرف إلا بعد أن أخذ الفتاتين معه. هكذا كان صادقا في حرصه على البنات منذ كان فردا عاديا، ولم يكن حينها نائبا في مجلس الشعب.
كان الرئيس صادقا وعفويا في خطاباته، وقد أكسبته العفوية حب الكثيرين، بدءا من وقفته في ميدان التحرير فاتحا صدره، وخطابه الأول في التلفزيون المصري وهو يتكلم عن (التوك توك)، لكن تربص الفاسدين به، ووجود أخطاء سياسية خلال فترة ولايته، سمحا بالانقضاض عليه، ووأد فرصة الانطلاق إلى المستقبل في ظل حكم رجل عفيف اليد شريف المقصد.
رحل مرسي، وسيظل التاريخ يذكر أن عام حكمه شهد أكثر فترات مصر حرية، وأنه الرئيس الذي كان يخالط الناس في المساجد والطرقات ولا يعزل نفسه عنهم، وأنه الرئيس الذي تظاهر أناس أمام بيته ببذاءة بالغة ولم يُطلَق عليهم رصاصا، حتى لم يُفرَّقوا، أو يتم اعتقال أحد منهم.
رحل مرسي وهو ثابت على موقفه، بأن الشرعية "ثمنها حياتي"، فقدّم روحه ثمنا لموقفه كما قال، ورحل وهو لا يزال يحمل حبه لوطنه الذي قدم إليه بعد تفوقه في إحدى كبريات الجامعات الأمريكية، وخدم وطنه منذ كان عضوا في مجلس الشعب، وحاول خدمة وطنه وهو رئيس للجمهورية. ورغم ما تعرّض له من تشويه وظلم ومرارة، خُتمت حياته وقلبه يفيض بحب وطنه،
فانطلقت آخر كلماته: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة.. وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام"، فكان جزاء محبته وصدقه هذا الطوفان الهائل من المحبة له والغضب لمقتله، ولا يملك المرء سوى أن يقول ما قاله الصديق عبد الرحمن فارس: "أنا اليوم من أهله وعشيرته".
رحل مرسي وهو ملحوق بدعوات في ربوع الأرض، والسيسي ملحوق بلعنات في ربوع الأرض، رحل الرجل الكريم وهو يُدفن سرا، وتحت تشديدات أمنية كبيرة، لكن تشديداتهم لا تقدر على أن تحجز المحبة التي سرت إلى الرجل في ربوع الدنيا، ونرجو ألا تقدر على حجز
طوفان الغضب عند اجتثاثهم.