أفضت الأسابيع القليلة الماضية عن تكشف حدود ومنطق المواجهة الأمريكية
الإيرانية، فقد جاء الردّ الإيراني على تصعيد حملة "الضغوط القصوى" التي تنتهجها إدارة ترامب؛ على شكل اختبار حدود جدية الإرادة الأمريكية لخوض الحرب عبر أذرعها الخارجية، من خلال إطلاق سلسلة من العمليات وتنفيذ هجمات بالوكالة.
ورغم تنامي حدة النزاع، لا يزال احتمال اندلاع نزاع واسع النطاق مستبعداً، نظراً إلى إحجام الطرفين عن التصعيد، رغم قيام الولايات المتحدة بإرسال المزيد من القوات إلى المنطقة وتصاعد التوترات. ومن المثير للاهتمام أن يكون ترامب وخامنئي قد عملا على وقف التوجّه نحو نزاع مباشر، فقد أوضح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه لا يريد حرباً، كما قال المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي إن "أياً منا لا يسعى إلى حرب". ومع ذلك، قد يزيد الإيرانيون بشكل معقول من نشاطهم غير المتناظر؛ لأنه من الصعب نَسْبْ هذه الأفعال إلى طهران.
الضغوطات الأمريكية السياسية الصارمة والعقوبات الاقتصادية القاسية على إيران، التي دشنتها إدارة الرئيس ترامب عقب الانسحاب من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، دفعت إلى الاقتراب من حدود شفير هاوية الحرب، وسرعان ما تكشفت بعض ملامح الاستراتيجية الإيرانية بالرد عن طريق شبكة محكمة من
المليشيات الخارجية التي تعمل بنمط هجين من المركزية واللامركزية، حيث مركزية قرار الولي الفقيه، ولا مركزية تنفيذ المليشيات الشيعية المسلحة، وتتابعت سلسلة من الهجمات المتنوعة في مناطق مختلفة جغرافيا وبطرائق متعددة عسكريا.
سلسلة العمليات والهجمات الاختبارية الإيرانية جاءت عن طريق وكلائها، حيث بدأت في 12 أيار/ مايو 2019، عندما أعلنت وزارة الخارجية الإماراتية، في بيان، أن أربع سفن شحن تجارية من عدة جنسيات، تعرضت لعمليات تخريبية قرب مياهها الإقليمية، قبالة ميناء الفجيرة البحري. وعقب الإعلان، أكدت الرياض تعرّض ناقلتين سعوديتين لهجوم تخريبي، وهما في طريقهما لعبور الخليج العربي قرب المياه الإقليمية للإمارات. ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجمات، لكن مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، قال لاحقا في 29 أيار/ مايو 2019، إن الهجمات على ناقلات النفط تمت باستخدام "ألغام بحرية من إيران بشكل شبه مؤكد".
بعد حادثة الفجيرة بيومين (14 مايو/أيار 2019)، قالت قناة المسيرة التلفزيونية التي تديرها جماعة أنصار الله الحوثية اليمنية، إن الجماعة نفذت هجمات بطائرات مسيرة على منشآت سعودية حيوية، حيث تم استهداف منشآت لأرامكو في السعودية بواسطة سبع طائرات مسيّرة. وفي 19 أيار/ مايو 2019، قام أفرادٌ من المليشيات الشيعية في العراق بإطلاق صاروخ من شرق بغداد على المركز الدبلوماسي والحكومي في العاصمة، المعروف بالمنطقة الخضراء. وعلى الرغم من أن القذيفة لم تُصب السفارة الأمريكية والمرافق العسكرية الأمريكية العراقية المشتركة، بل سقطت بعيداً عنها، إلّا أن توقيت الضربة بعث برسالة لا لبس فيها؛ مفادها أن المليشيات الوكيلة لإيران تتمتع بحرية عملياتية مطلقة لتوجيه التحذيرات إلى الولايات المتحدة، متجاهلةً دعوات ضبط النفس التي تطلقها الحكومة العراقية. وكان الجيش الأمريكي قد أكد في 14 أيار/ مايو 2019 مخاوفه حيال تهديدات وشيكة من قوات مدعومة من إيران للقوات الأمريكية في العراق، والتي أصبحت الآن في حالة تأهب قصوى.
في سياق التصعيد، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، قرار إرسال قوات أمريكية إضافية إلى المنطقة رداً على هذا التهديد، بما في ذلك البارجة المدمرة "يو إس إس أرلينغتون" التي تحمل على متنها جنوداً من المارينز مع معداتهم، فضلاً عن إرسال بطارية صواريخ "باتريوت"، وإرسال حاملة الطائرات "أبراهام لنكولن" إلى الخليج، حيث بدأت القاذفات الأمريكية "الشبح" من طراز "بي 52" الاستراتيجية بالانتشار في الخليج.
وقالت وزارة الدفاع الأمريكية في 24 أيار/ مايو 2019، إنها "تعتقد أن
الحرس الثوري الإيراني مسؤول بشكل مباشر عن هجوم الفجيرة الذي استهدف سفن قبالة الإمارات". وكشف مسؤولون أمريكيون، في ذات الوقت أن الرئيس دونالد ترامب، أبلغ الكونغرس باعتزام إدارته إرسال 1500 جندي إلى الشرق الأوسط. وأشارت صحيفة "ديلي تليغراف" البريطانية إلى أن القوات الأمريكية الإضافية، البالغ عددها 1500 جندي، هي جزء صغير من مجموعة الخيارات العسكرية؛ التي كان من الممكن أن تشهد نشر 10 آلاف جندي أمريكي في منطقة الخليج.
بلغت سياسة الضغوط القصوى الأمريكية ضد إيران حافة الهاويةح؛ حين أعلن ترامب في الثامن من نيسان/ أبريل 2019، في خطوة غير مسبوقة، إدراج "الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية، في إطار تدشين مرحلة ثانية من استراتيجية الضغوط القصوى، وهي خطوة لا سابق لها في التاريخ الأمريكي والدولي؛ تطبق فيها واشنطن هذا التصنيف على مؤسسات حكومية رسمية لدولة أخرى. وهي خطوة لم تتجاوز قواعد اللعبة الاستراتيجية طوال تاريخ
الصراع الأمريكي- الإيراني على مدى الأربعين عاما الماضية، منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. فالحرس الثوري الإيراني الذي يبلغ عديده 125 ألفا، يتخطى دوره المهمات العسكرية، ويقوم بأدوار حيوية في كافة المجالات السياسية، والأمنية، والثقافية والاقتصادية، باعتباره "صمام الأمان" للثورة الإسلامية في إيران.
لم تتخل إيران يوما عن رؤية آية الله الخميني المتعلقة بنشوء شرق أوسط إسلامي تكون الرائدة فيه، لكن قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 كدولة شيعية وحيدة في العالم؛ عمل على تنامي الإحساس بالهوية الشيعية في المنطقة. وإذا كانت إيران قد ظهرت على مدى العقود الثلاثة الماضية بأنها تتخلى عن هدفها المتمثل بتصدير ثورتها، فإن ذلك حدث عقب التسليم باستحالة تحقيقه، لكن النخبة الثورية المقربة من خامنئي لا تزال تحلم بتصدير الثورة، مع تبدل الأساس الذي تقوم عليه، وذلك بالاعتماد المباشر على القوى المذهبية الشيعية، واستثمار الاستقطابات الهوياتية الطائفية.
وقد سعى العديد من القادة الإيرانيين، بمن فيهم الرئيس الحالي حسن روحاني، إلى اتباع نهج مختلف، لكن مرتكزات السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية (القائمة على الشيعية، والإسلامية، والمناهضة للغرب، والمناهضة لإسرائيل) بقيت بعيدة عن التجاذب، إذ يتطلب فهم توجهات الجمهورية الإيرانية نظرة عميقة على أجهزة صناعة القرار الإيراني الديني والسياسي. فمكتب المرشد الأعلى يركز على الحفاظ على المبادئ الأيديولوجية والدينية والفلسفية لثورة 1979، بينما تقوم المؤسسة الإدارية للرئيس بإدارة المشاكل اليومية للبلاد وتدبير الشؤون الطارئة.
أدت التحولات التي عصفت في المنطقة عموما وسوريا والعراق، خصوصا عقب ثورات الربيع العربي 2011 إلى تغيرات في بنية المشروع الإيراني وطموحاته الإقليمية وبات يطمح إلى تحقيق خطة طموحة تهدف إلى خلق ممر بري يصل إيران بشواطئ البحر المتوسط مرورا بالعراق وسوريا لتعزيز نفوذ طهران في المنطقة، وهو مشروع إيراني وضع منذ أكثر من ثلاثة عقود لكنه واجه صعوبات نظرية وعملية عديدة. ورغم أن استراتيجية إيران الناشئة حديثاً في بلاد الشام طموحة، إلا أنها تقع في إطار استراتيجية أكبر؛ تأمل طهران من خلالها إلى تحقيق هيمنة إقليمية أوسع على المدى الطويل. وبهذا، فإن الخطة المرحلية الإيرانية تهدف إلى تحقيق هيمنة مستدامة في العراق وسوريا ولبنان؛ من خلال جيش الظل الذي يديره فيلق القدس.
على مدى عقود، ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها، وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط، ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود الجمهورية الإيرانية الإسلامية من الحديث عن الخطر الإيراني. وقد أُدرجت إيران منذ عام 1984 على لائحة الولايات المتحدة لـ"الدول الداعمة للإرهاب"، فضلا عن تعريفها كدولة "مارقة"، ومع ذلك، تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية عبر جيش الظل المكون من المليشيات الشيعية الملتزمة بعقيدة ولاية الفقيه من التمدد والانتشار، وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد، مرورا بدمشق، زوصولا إلى بيروت، فضلا عن نفوذها في البحرين واليمن.
تمثل المليشيات الشيعية المسلحة التي تتبع ولاية الفقيه؛ الركيزة الأساسية في بنية عقيدة الأمن القومي الإيراني الإقليمية، ذلك أن إيران ليست قوة جبارة في أي المجالات العسكرية الرئيسية. ففي المجال الجوي، يمكن اعتبار إيران قوة متواضعة، فهي لا تملك سوى عدد محدود من الطائرات الحديثة والفعالة، أما القوات البرية الإيرانية، فهي أقوى فروع القوات المسلحة الإيرانية، لكنها تعاني من نقاط ضعف أساسية، وتعتبر القوة البحرية الإيرانية الأقوى، ولكنها تعاني في ظل الضعف الشديد للقوات الجوية الإيرانية.
في مواجهة التفوق الأمريكي الساحق والحصار الغربي، والجفاء الإقليمي، عمد الإيرانيون إلى اعتماد عقيدة عسكرية تقوم على مبادئ "الحرب غير المتماثلة"، لإحداث الفارق، وهي حروب تعتمد على مجموعة معقدة ومركبة من الاستراتيجيات، تستند إلى تأسيس جيش ظل يعمل كفيلق خارجي عبر إنشاء مليشيات عقائدية مسلحة، تتأسس على نموذج "حزب الله" اللبناني، الذي يعتمد على نهج سياسي من المشاركة، واجتماعي من الشبكية، وعسكري هجين يعتمد بصورة أساسية على منطق حرب العصابات. ورغم أن هذه الاستراتيجية لا تستطيع هزيمة أمريكا، لكنها تجعل من كلفة أي حرب أمريكية على إيران باهظة ومكلفة وغير مأمونة العواقب.
خلاصة القول، إن منطق المواجهة بين أمريكا وإيران يقوم على تقديرات مادية ورمزية دقيقة، وفق حسابات الكلفة/ المنفعة. فرغم التفوق العسكري الأمريكي الكاسح في الحرب الكلاسيكية، فإن هذا التفوق لا يجدي نفعا كبيرا مع نهج الحروب اللامتماثلة. فعقب تصاعد حدة الأزمة بين أمريكا وإيران، بالاقتراب من حافة هاوية الحرب، بعثت إيران برسالة واضحة لا لبس فيها عن طبيعة الحرب إذا نشبت، وكلفتها الباهظة، واتساع نطاقها ليشمل كافة أرجاء المنطقة، وذلك عن طريق عمليات وهجمات ينفذها فيلق إيران الخارجي؛ الذي يشرف عليه فيلق القدس التابع للحرس الثوري، ويقوده الجنرال قاسم سليماني.
ويتكون هذا الفيلق الخارجي من شبكة من المليشيات الشيعية الممتدة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وغيرها من المناطق. فقدرة إيران على المناورة تقع وفق استراتيجية الحرب اللامتماثلة ومنطق حروب العصابات. وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يتفوقون في الحروب التقليدية بصورة حاسمة، فإن إيران تتمتع بميزة الحروب الهجينة اللامتكافئة، وهي ميزة طورتها إيران خلال العقود الثلاثة الماضية عبر جيش الظل الخارجي؛ الذي بات ركيزة أساسية في عقيدة الأمن القومي الإيراني، ويستند إلى عقيدة قتالية ملتزمة بمرجعية الولي الفقيه في طهران، وهو مستعد لخوض حروب الوكالة المحتملة دون تردد.