الذاكرة السياسية

روح شباب الجزائر تبعث في فلسطين الحاضر.. المعركة واحدة (2)

إن الزعامة الجزائرية نبتت من ميادين القتال. كلهم جنود، وكلهم خططوا عند خطوط النار ودبروا. وكلهم عرفوا الحياة أجفى ما تكون.. (الإذاعة الجزائرية)
إن الزعامة الجزائرية نبتت من ميادين القتال. كلهم جنود، وكلهم خططوا عند خطوط النار ودبروا. وكلهم عرفوا الحياة أجفى ما تكون.. (الإذاعة الجزائرية)
إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى  يوم  الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين..

وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى  التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح  من  تشرين  الثاني (نوفمبر 1954) وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية  في الساحة والساعة  الدولية عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع سنين مماثلة  لما يراه العالم  على  المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.

لقد عايشت تلك  الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع  الحال.

وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من جهة  نوعية  الاستيطان  وفصيلة المستوطنين أنفسهم  خلفا عن سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء  المغرب العربي الكبير  المدفونين  في القدس الشريف على مر التاريخ  الإسلامي للأمة عندما كانت أمة حرة  حتى  تحت الاحتلال الأجنبي  الخارجي (الأرحم  مع  الأسف  من  الاستحلال الداخلي  الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000  مجاهد سنة 1948 ودخلوا  من أرض الكنانة سابقا  لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا  إلى داكار ونواكشوط  والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!

وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق  وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة بما نراه على المباشر في  الثورة الفلسطينية  العظيمة  الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.

وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء  الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع.)  في مواجهة  أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله  قادة  العالم الغربي الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما  من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..

كنا نعتقد، وأن بعض الظن  ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج  حقوق الإنسان التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم  الواجم.

إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير القلق  فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة  في  غزة  العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها  اليوم  والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)  وليس الإنسان  البشري  المتحضر  المتعلم  والمتقدم!!

وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة  الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء  في الجزائر الثانية ( فلسطين  الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..

الشباب الجزائري والثورة

عن علاقة الشباب الجزائري بثورة أول نوفمبر يحدثنا الأستاذ المجاهد محمد الطيب العلوي (في محاضرة له عن بيان أول نوفمبر) فيقول :

"فلنبدأ من البداية.. ولنرافق الشبان الذين أسسوا الجبهة، وأعلنوا الثورة في تطوراتهم السياسية التي عاشوها، ومع الأحداث التي عاصروها وانعكست على حياتهم وتفكيرهم، إذ في مرافقتنا لهؤلاء الشبان نرافق تطور الحركة الثورية، فنفهم مغزى تأسيس "جبهة التحرير الوطني" ونفهم "بيان أول نوفمبر" فهما واعيا... والذي جاء فيه:

"وذلك بإقامة الدولة الجزائربة الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، وباحترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني".

لقد استعمل الفرنسيون طوال الحرب العالمية الثانية كل وسائل الخداع والمناورة والمماطلة إلى حين انتصارهم، فظهروا على حقيقتهم إثرها ليرتكبوا أضخم مجزرة في تاريخ الاستعمار، عاش أحداثها ملايين الأطفال والشباب، ومن هؤلاء الشبان مؤسسو "جبهة التحرير الوطني" الذين كانوا يتقدون حماسة ووطنية في ريعان شبابهم. وهذا أول درس تلقوه على يد الوحشية الاستعمارية وعاه كل شاب عاش الحدث، وأقسم بعض الشباب أنهم سينتقمون...".

وتأكيدا لتلك الحالة التي كان عليها الجزائريون عموما، والشباب على وجه الخصوص أثناء الاحتلال، نورد هذه الفقرة عن حياة الشهيد بوجمعة سويداني نقلا عن مجلة أول نوفمبر (عدد 43 - 1980) حيث يقول:

"في عام 1941 صدر قرار من طرف السلطات الاستعمارية، يقضي بمنع المواطنين الجزائريين من ارتياد الأماكن التي يرتادها الأوروبيون، وكانت دور السينما والملاهي على وجه العموم من ضمن هذه الأماكن المحرم على الجزائري ارتيادها، وحسب إفادة زملاء الشهيد أن سويداني بوجمعة كان في غالب الأحيان يقضي أوقات فراغه مع أبناء الأوروبيين. وذات يوم صاحب مجموعة من أصدقائه من الأوروبيين لقضاء إحدى الأمسيات في التمتع بمشاهدة فيلم، ولكن ما إن بلغوا السينمـا حتى وجدوا لافتة معلقة مكتوب عليها بخط واضح العبارة التالية: «ممنوع دخول السينمـا على الأندجان".

وكلمة الأندجان مصطلح أطلقه الأوروبيون على السكان الأصليين الذين ليس لهم مكان في حاضرة الأوروبيين. ولما لاحظ الشهيد تلك العبارة تسمر في مكانه متجهما من شدة التأثر، ثم سيطر عليه شعور حاد غريب، وهم على الفور بالعودة من حيث أتى، وحاول أصدقاؤه الأوروبيون إثناءه عن تنفيذ فكرته، وقالوا له بأن هذا لا يعنيه هو، لكنه أدرك بحاسته الوطنية أنه أمام حركة عنصرية حاقدة، وبادرهم قائلا: إن هؤلاء الاندجان كما تدعون هم من جلدتي وأنا واحد منهم. ومنذ تلك اللحظة تغيرت مواقف الشهيد وتصرفاته تجاه الأوروبيين كما يفيد زميله المجاهد (ابن الساسي) الذي قال: "إن الشهيد يومها لم يعد إلى منزله كالعادة وإنما ذهب إلى الحي الشعبي من المدينة وجمع نفرا من شباب الحي الذين قاموا بمظاهرة طافوا خلالها أرجاء الحي تنديدا واستكارا لهذا الموقف العنصري الحاقد، وألقي القبض على ثلاثة شبان كان الشهيد على رأسهم، وقدموا للمحاكمة وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، وغرامة قدرها 600 فرنكا قديما". ونعتقد أن هذه الشهادة الحية تلخص للقارئ كل ما ذهبنا إليه من تحليل واستدلال.

وعن وصف حالة الشاب الجزائري وتشوقه إلى الالتحاق بصفوف الجهاد يحدثنا أحد المجاهدين الشباب في كتاب له بعنوان: "ثورة الجزائر كما شاهدتها وقرأت عنها" صادر عن دار البعث بقسنطينة 1981، يقول المجاهد جودي الأخضر بوطمين:

"كنت طالبا مغتربا حين اندلعت الثورة الجزائرية، وكنت بعيدا عن بلادي بحوالي 7000 كلم، ولكن هذا البعد لم يكن يذكر أمام الفرحة الكبرى التي عمت البلدان العربية وكل الطلبة العرب ومنهم الطلبة الجزائريون الذين كانوا بالعراق وكنت أحدهم، تلك الفرحة التي هلل لها وكبر واستبشر بها كل المعذبين في الأرض وكل الذين حرمهم الاستعمار من نعمة الحرية والاستقلال، وكل الذين ولدوا فوجدوا أنفسهم تحت سيطرة الأجنبي وهو يعمل جاهدا لسحق التفكير في شيء اسمه الحرية، ووجد نفسه غريبا عن وطن آبائه وأجداده، فأين يتجه يجد لغة غير التي فطر عليها، وأين يتجه يجد الباب مسدودا أماهه، وعليه إن أراد أن يعيش أن يتعلم لغة الأجنبي الحاكم، وأن يتخلق بأخلاقه وأن يتنكر لأصله، وإلا عد من الذين يحق عليهم العذاب والنقمة على الدوام، لكن من حسن حظي أنني خلقت في هذا البلد الذي يمكن أن يسهل عليه التضحية بأشياء كثيرة وبكل شيء أحيانا، ولكنه لا يقبل أبدا أن يتنازل عن مقوماته، ولا يقبل أن يضحي لا بقليل ولا بكثير من هذه المقومات، ومن أهمها لغته، لذلك فإنني وجدت أين أتعلم هذه اللغة رغم الصعوبات والعراقيل التي كان الأجنبي يضعها أمامها وأمام كل من يعلمها ويتعلمها، ورغم أنفه تعلم هذه اللغة الكثير من أبنائها وتقدم بهم السن وتطلب منهم الاغتراب فاغتربوا، وكانت طريق الشرق تستهوي الكثير منهم في تونس وما جاورها حتى العراق، البلد الذي كنت أدرس فيه ضمن أول بعثة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين مكونة من 12 طالبا بعد أن درس بعضهم في معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة ثم تونس والبعض الآخركان يدرس بتونس دون المرور بالمعهد المذكور"..

لقد استعمل الفرنسيون طوال الحرب العالمية الثانية كل وسائل الخداع والمناورة والمماطلة إلى حين انتصارهم، فظهروا على حقيقتهم إثرها ليرتكبوا أضخم مجزرة في تاريخ الاستعمار، عاش أحداثها ملايين الأطفال والشباب، ومن هؤلاء الشبان مؤسسو "جبهة التحرير الوطني" الذين كانوا يتقدون حماسة ووطنية في ريعان شبابهم. وهذا أول درس تلقوه على يد الوحشية الاستعمارية وعاه كل شاب عاش الحدث، وأقسم بعض الشباب أنهم سينتقمون..
إلى أن يقول في مكان لاحق من الكتاب: "اندلعت الثورة سنة 1954 وانتشر أمرها واستفحل، ومرت ذكراها الأولى وطغت أحداثها، وملأت صحف العالم واحتلت إذاعاته، وانتشر رجال جبهة التحرير الوطني في شتى أنحاء العالم، وهناك كان اللقاء معهم من طرف الطلبة الجزائريين، فكان السؤال وكان البحث وكان التشاور، ولكن لم يكن أحد ليستطيع أن يتخذ المسؤولية أمام الطلبة وبالتحديد مسؤولية موقفهم من الثورة، فهل يلتحقون بها أم يستمرون في مواصلة دراستهم؟ رأيان شغلا عقول الطلبة، وكلاهما صالح ونافع للوطن. وبقي التفاضل والاختيار بين هذين الرأيين، وهذا سواء بالنسبة للطلبة الجزائريين في الشرق أو لأخوانهم في أوروبا، فبعض رجال الجبهة كانوا يرون أن حاجة الوطن ومصلحته الآتية تتطلب تجنيد الطاقة الحية في البلاد وخاصة الشباب المثقف، وصوروا الوطن بالمريض الذي لابد له من علاج، وعلاجه لن يكون من طرف الفلاحين والعمال فقط، بل يجب أن يكون هذا العلاج من المتعلمين والمثقفين، ورأيهم هو الالتحاق بالثورة ولو أنهم لا يباشرون اتخاذ المسؤولية بأنفسهم وكان هذا العدد قليلا، أما أصحاب الرأي الآخر وهم الكثيرون فيرون عكس هذا الرأي ويقولون بأن الأفضل للطلبة الجزائريين سواء الموجودين منهم في الشرق أو في الغرب أن يواصلوا دراستهم وأن حاجة الوطن لهم ليست اليوم، بل بعد الاستقلال، ولكنهم كزملائهم السابقين لا يقبلون أبدا أن يتحملوا مسؤولية تأخير الطلبة عن المشاركة في الثورة. ونتج عن كل هذا التردد من طرف المسؤولين أن حسم الطلبة أمرهم فتابع معظمهم دراسته واتجه البعض الآخر نحو مهنة التعليم في الأقطار العربية، واتجه عدد منهم إلى الثورة، ونجحوا بعد مجهودات شاقة في التوصل إلى المكلفين بالثورة المسلحة وشؤونها الحربية...

وهكذا تمكن هؤلاء من فترات تدريبية ثم السفر نحو الجزائر التي لم يصلوها إلا بعد صعوبات يشيب لهولها الأطفال".

وعن الزعامة الشابة التي نبتت في ميادين القتال يحدثنا رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية في افتتاحيته الشهرية بمناسبة قرارات إيقاف القتال بين الجزائر وفرنسا، في شهر مارس من سنة 1962، فيقول:

"إن الزعامة الجزائرية نبتت من ميادين القتال. كلهم جنود، وكلهم خططوا عند خطوط النار ودبروا. وكلهم عرفوا الحياة أجفى ما تكون، وأمر ما تكون، وأخطر ما تكون.

فهم من الفئة التي لم تبال الموت ولن تباليه وهم شبان، أسماؤهم مغمورة غير مشهورة، وهم شبان كفروا بالخلافات التي هدت كيان البلاد، فصنعوا ما صنعوا بمعزل عنها، وجعلوا من وحدة الصف بينهم غاية، هي عندهم من أمهات الغايات، ومن الوحدة التي نشأت بينهم اضطردت الوحدة في صفوف المحاربين الذين هم دونهم، وعمت من أجل هذه الوحدة الثقة بهم والطاعة وليدة الثقة، والأوامركانت تخرج إلى الجند المحاربين المتطوعين فتجاب بلا تردد، ولوكان في إجابتها الموت.

إنهم بالوحدة انتصروا، وبالوحدة هم لاشك منتصرون".

وعن أمثال هؤلاء الشبان أنشد الشاعر العربي قائلا:

حي أرض الأسود حي القسـاور           حي ربع الأبــاة حي الجزائـــــر
حـي أرضــا تخضّبـت بـدمـــاء               زاكيات فأزهرت بالــــمفاخــر
حي روحا تقحمت كـل هـــول             في شبـــاب على الظالم ثائــــر"

وبعد هذه الاستشهادات المتنوعة عن دور الشباب الجزائري في الثورة، يجدر التنبيه إلى أن العامل الاجتماعي الأخير ليس إلا واحدا من العوامل الكثيرة، مع العلم أن هناك من الشباب من ترك يدي عروسه مخضبة بالحناء ليلتحق بعالم الخلود، كما أن هناك من كان على درجة عالية من اليسر، وترك الأرائك الوثيرة ليلتحف السماء ويفترش الأرض في الجبال والأودية، فهذا كله موجود ولا يتناقض مع ما أوردناه في مكانه من تحليل للعوامل السابقة...

وبالنسبة لعامل الفقر والحرمان، كم أذكر تلك العبارة التي كان يرددها بعض شبان جيش التحرير الوطني، عندما تتراءى لهم أضواء العاصمة من أعالي جبال جرجرة الشماء فيحيونها بقولهم : «أحييك أيتها الجزائر التي أكافح من أجلك دون أن أعرفك» وكم استشهد من هؤلاء البراعم دون أن ترى عيناه عاصمة الجزائر البيضاء!

وبالنسبة للعزيمة والوعي، فأعترف أنني لا أذكر إطلاقا مثالا لأي أب اعتزم الالتحاق بالثورة فوجد معارضة من (أبنائه إن لم يجد تشجيعا ودعما...) في حين أذكر عشرات الأمثلة عن شبان التحقوا بالجهاد عصيانا وتمردا على طاعة الوالدين!

وكم يدعوني هذا إلى إكبار إمامنا عبد الحميد بن باديس على تلك النظرة النافذة والمراهنة الرابحة على الشباب الجزائري حيث يقول:

"يا نشء أنت رجاؤنــا         وبك الصبـاح قـد اقتــرب
 خذ للحياة سلاحهـــا          وخض الخطوب ولا تهـب"

فقد كان رجاؤه في الخلاص من الاستعمار منصبا على الشباب، فكان الشباب عند حسن رجائه.

ولعلنا بهذا نكون قد أتينا على إبراز بعض العوامل التي جعلت من الشباب الجزائري أقوى دعم للثورة التحريرية...

ونعتقد أننا لم نف إلا بالقليل الرمزي ما يتطلبه إبراز دور الشباب في الثورة الجزائرية، لأن هذا الدور أعمق من أن يحلل، وأوسع من أن يحاط به في فصل ذي صفحات محدودة كهذه، ولكن حسبنا أن ذكرنا شباب الاستقلال بما قدمه شباب الثورة، فرّب مدّكر ومصدق ومعتبر، لمواصلة المسيرة الجهادية، لأن الاستقلال الكامل لم يتحقق بعد، ولن يتحقق بزوال العلم الفرنسي من المؤسسات الرسمية، واختفاء جنود الاحتلال من الشوارع وزوال الفرنسيين (بالجنسية) من كراسي الإدارة الوطنية... بل هناك بناء وهناك تعمير، وهناك تحرير للفكر والإرادة بعد تحرير الأرض واسترجاع بعض رموز السيادة.

ونظرا لأن دوام الحال من المحال، وإن الاحتلال إذا كان يحمل بذور استقلال كما هو واقع الحال، فإن كل استقلال قد يحمل أيضا بذور احتلال، وخيانات متعددة على مختلف المستويات والأشكال، ولذلك نختم بهذا النداء و التنبيه إلى خطر التزييف و التحريف الذي قدمه أمين المنظمة الوطنية للمجاهدين الشيخ يوسف اليعلاوي في توصيته إلى الشباب الوطني بقوله:

"إن الذي ما زلنا نشاهد بروزه بشكل مخطط مضبوط من التآمر على مبادىء ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 والاستمرار في بذل المحاولات العديدة من أجل تزييف تاريخ هذه الثورة العارمة، ابتداءً من دوافع اندلاعها وأسباب سرعة انتشار لهيبها، ومساهمة الشعب بجميع فئاته في خوض غمارها، إلى العوامل الأساسية التي جعلت انتصارها يتحقق بالرغم من تكالب كل قوات الاستعمار، وعملائه المتعاطفين والمتعاونين مع المستعمرين الذين عجزت قواتهم الضخمة البشرية منها والمادية عن فرض أي حل للقضية الجزائرية ضد إرادة الشعب وفي غياب جبهة التحرير الوطني.".

ثم يضيف منبها إلى التزييف والتزوير الذي بدأ يظهر بعد الاستقلال فيقول: "عملية التزييف أخذت تبرز بعد الاستقلال مباشرة، وقد دبرت هذه العملية بقصد إدخال نوع من التشكيك في نفوس شبابنا وأجيالنا الصاعدة من جهة، ومن جهة أخرى إضعاف جانب الانتصار العسكري لجيش التحرير على قوات الاحتلال الفرنسي، أو على الأقل التقليل من سمعة الثورة، وتغطية الهزيمة النكراء التي مني بها الجيش الفرنسي، ومعه الحلف الأطلسي بأكمله".

ثم يختم حديثه بقوله: "وقد ألفت منذ الاستقلال عدة كتب لتحقيق تلك الأغراض، ونشرت عدة مقالات، وألقيت محاضرات، وأخرجت عدة أفلام، وقد كان البعض من تلك المؤلفات صادرا عن الأجانب وربما من الضباط الفرنسيين أنفسهم الذين كانوا بالأمس يحاربون في صفوف الجيش الاستعماري، أو كانوا ممن دخلوا إلى الجزائر إبان الثورة تحت حماية الجيش الفرنسي" .

ويحق لنا القول أنه لولا ذلك الكفاح الطويل والمرير للشعب الجزائري للحفاظ على كيانه المتميز عن كيان العدو، لحق لنا أن نتساءل عن لماذا لم يطالب سكان مرسيليا أو تولوز أو بوردو بالاستقلال عن باريس، وطالب به سكان الجزائر التي كانت من أقصاها إلى أدناها عبارة عن ثلاث ولايات فرنسية في ما وراء البحر كما كانوا يقولون!! فالجواب عن هذا السؤال المشروع هو أن الهوية في هذا الوطن لم تحتل ولم تطمس معالمها الجوهرية (الدينية واللغوية) رغم ضياع أوراق الجنسية التي كانت تفرض على الشعب الجزائري في الخريطة المدرسية الفرنسية.

والدليل على ذلك أن الذين مازالوا يحاربون إلى اليوم (و بكل الوسائل المتاحة) ثوابت هذه الهوية الوطنية للشعب الجزائري الموحد إلى الأبد إن شاء الله هم كلهم من مخلفات الثقافة الفرنسية الصليبية و العلمانية لغة و سلوكا، من الذين فرض عليهم استقلال الجنسية الجزائرية (بحكم كفاح الأحرار من المجاهدين والثوار، وأصوات الأغلبية الشعبية في الاستفتاء على تقرير المصير سنة 1962)، و هو ما راهن عليه الجنرال ديغول الذي خطه بالحرف الواحد في كتابه "الأمل" حول هذا الموضوع بالذات، و كأنه حاضر معنا الآن، حيث يقول: بأن "الجزائر ستبقى فرنسية" و إنه "إن تركنا (نحن الجزائريين) نحكم أنفسنا، فليس معنى ذلك أنه يتركنا بعيدين عن أعينهم و قلوبهم.. و يبرر ذلك بأننا نتحدث لغتهم و نتقاسم معهم ثقافتهم" وهذا ما وقع بالضبط في الندوة المنعقدة في مدينة مرسيليا ومطلع سنة (2012) حيث ورد في مقال للمجاهد الدكتور عثمان سعدي عن هذه العينة من الجزائريين الذين راهن عليهم الجنرال ديغول قوله: "... صرح مخرج سينمائي جزائري(..) في منتدى حرب الجزائر المنتظم بمرسيليا (في 28/03/2012) بأن التعريب كارثة على الجزائر، و إن المدرسة الجزائرية لم تخرج سوى فاشلين.." ويتمنى لو استمرت اللغة الفرنسية في الجزائر كما كانت قبل سنة 1962...".

ثم يضيف الكاتب قوله: "...تفاجأ الجزائريون من هذا التصريح لكن أنا لم أفاجأ، فقد سبق لي عندما اطلعت على أفلامه، وجدت خلاصتها أن ثورة أول نوفمبر 1954 قام بها مجانين حيث حرموا الجزائر من نور المعرفة الفرنسية، و قد سجلت موقفي لدى الرئيس هواري بومدين وقلت له: "كيف تموّل الدولة الجزائرية أفلاما تعرّض بالوطنية الجزائرية" ونحن نقول هنا تعليقا على كلام الدكتور عثمان سعدي إلى جيل الاستقلال بأنه إذا لم يحدثنا التاريخ عن أقوام زالوا أو ضعفوا بسبب فقدان البترول في أراضيهم، فإنه قد حدثنا عن أقوام، زالوا من الوجود الحقيقي للحضارة البشرية، بسبب فقدان الإيمان في قلوبهم و القيم في واقعهم والجهاد و الإخلاص في أفعالهم، رغم ما تزخر به أراضيهم من ثروات طائلة قد استغل مردودها في عمليات الانتحار الحضاري، والتحلل من القيم الإنسانية إلى عالم الوحوش الضارية الكاسرة والنباتات الهامشية العابرة! ولذلك يجب التأكيد هنا على القول بأن الاستقلال الوطني إذا كان ثمنه غاليا جدا، كما يتبين من خلال ما ورد في فصول هذا الكتاب وغيره من الكتب الصادرة عن الثورة، فإن الأثمن منه بكل تأكيد هو تلك الروح الجهادية التي أوجدته. و إذا كان من الواجب علينا أن نحافظ على هذا الاستقلال المكتسب الذي تحقق بمثل هذه التضحيات، فإنه من باب أحرى و أولى أن يحافظ الوطن على عوامل وجود هذا الاستقلال الثمين، لأنه إذا كان الصعود إلى القمة مهما فإن الأهم ـ في نظر كل عاقل ـ هو المحافظة على عوامل البقاء في هذه القمة، حتى لا يتحول الجهاد إلى (عجلة احتياط) يلجأ إليه المحترفون في بعض الملمات و الأقراح، و ينسونه في المسرات والليالي الملاح، و كأنما الحياة الحرة الكريمة ليست إلا جهادا متكاملا و كفاحا متواصلا!؟

اقرأ أيضا: روح شباب الجزائر تبعث في فلسطين الحاضر.. المعركة واحدة (1)
التعليقات (0)