أفكَار

طوفان الأقصى بين النظرية الواقعية وقصة موسى مع فرعون (2 من 2)

 لقد سقط الكيان الصهيوني وتدمرت صورته، يوم نجح المقاومون في بضع ساعات من السيطرة على غلاف غزة محطمين هيبة الردع التي كان يتمتع بها جيش العدو.. الأناضول
لقد سقط الكيان الصهيوني وتدمرت صورته، يوم نجح المقاومون في بضع ساعات من السيطرة على غلاف غزة محطمين هيبة الردع التي كان يتمتع بها جيش العدو.. الأناضول
إن طبيعة الصراع الجاري فوق الأراضي الفلسطينية، يجعل منه صراعا بين الحق والباطل، صراع أصحاب الأرض مع الغزاة المحتلين، ولذلك، فإن استدعاء القصة القرآنية لتفسير محطة من محطات الصراع الراهن هو استدعاء علمي وعقلاني بالنسبة لمن يؤمنون بصحة الكتاب الذي أنزل على محمد عليه السلام، فالقصة الخالدة في القرآن الكريم تتجاوز الزمان والمكان والأشخاص؛ لأن الأمر يتعلق بكتاب كوني، والوقائع التي ذكرها القرآن الكريم في صراع الحق مع الباطل هي وقائع تتكرر في كل الأزمنة والأمكنة بصور مختلفة، ولكنها تترجم قوانين إلهية ينبغي استحضارها في صراع الحق مع الباطل، قال تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"(يوسف الآية 111). وقال أيضا: "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون"(الأعراف:176).

وتعد قصة موسى عليه السلام مع فرعون من أكثر القصص التي تكررت في القرآن الكريم؛ حيث جاء الحديث عنها في أكثر من عشرين سورة، وتكرر ذكر موسى عليه السلام أكثر من مائة مرة، وهي قصة ملهمة لجميع العاملين من أجل إعلاء كلمة العدل والحق ونبذ الظلم والطغيان.

الظاهرة الفرعونية حالة متكررة في العديد من الأزمنة التاريخية مع العديد من الطغاة والجبابرة.

لا يتسع المقام لسرد جميع وقائع القصة التي تبدأ بالحديث عن ظروف نشأة موسى عليه السلام، الذي اصطفاه الله لإنقاذ بني إسرائيل من ظلم فرعون وملئه، حيث كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وبعثه لدعوة فرعون لتوحيد الله ونهيه عن ظلم الناس، لكن فرعون أصر على كفره وجحوده وحارب موسى وقومه، إلى أن كانت حادثة شق البحر، وكان مصير فرعون ومن معه الغرق له ولقومه وبقاءه عبرة لمن بعده من الطغاة المستبدين.

هي قصة مليئة بالمعاني والأسرار، وكثيرا ما أعدّها إحدى أهم القصص القرآنية التي تمثل التجسيد التاريخي الحقيقي لصراع الحق مع الباطل، حين يكون هناك اختلاف كبير في "موازين القوى" بين الباطل المستكبر المتغطرس، والحق المستضعف المقهور.

 إذا استعرنا مفهوم "موازين القوى" من المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، فسنلاحظ أن الهوة بين القوة المادية لفرعون والقوة المادية لموسى عليه السلام، كانت هوة كبيرة لا تسمح بأي حديث عن تكافؤ للقوة، كما هو حال الصراع القائم اليوم بين جيش الاحتلال المدعوم بأعتى القوى العسكرية في العالم، والمقاومة الفلسطينية التي تستخدم ما لديها من إمكانيات غير متكافئة إطلاقا مع إمكانات العدو.

ففرعون لم يكن شخصا عابرا في التاريخ، بل هو تجسيد للظاهرة الفرعونية التي تكررت في العديد من الأزمنة التاريخية مع العديد من الطغاة والجبابرة، وهذه الظاهرة تقوم على مجموعة من الخصائص والمواصفات، كل من توفرت فيه فهو امتداد لفرعون ومنهجه.

العلو والطغيان واستصغار الآخرين من أهم خصائص الظاهرة الفرعونية.

أول هذه الخصائص، هي الطغيان في الأرض، قال تعالى: "اذهب إلى فرعون إنه طغى" (طه:124)، وهو ما يمكن أن نلاحظه بكل وضوح في السياسة الإسرائيلية المتبعَة اتجاه الفلسطينيين على مدى أزيد من 75 سنة من التهجير والتقتيل والتشريد، والاستيطان وتدمير القرى والبلدات الفلسطينية، وتغيير أسماء المدن العربية إلى أسماء عبرية، وغيرها من مظاهر الطغيان والعلو في الأرض.

ويبقى من أهم أبرز أوجه التشابه، الاستهداف المتعمد لقتل الأطفال والنساء، وهو استهداف منهجي نابع من الخوف من المستقبل الذي يمثله أطفال اليوم، واستهداف أرحام الأمهات الفلسطينيات، اللاتي ينجبن كل يوم أفواجا جديدة من المقاومين الحاملين لمعاني الشهادة والرافضين للتنازل عن القضية، كما كان فرعون يأمر بقتل كل ذكر من بني إسرائيل؛ بعدما شاع أن الله سبحانه وتعالى سيبعث من نسل إبراهيم نبيّا، يكون سببا في هلاك فرعون على يديه.

إن النهاية الحتمية المنتظرة، هي توريث الأرض للمؤمنين الصابرين المرابطين في ساحة المقاومة والشرف، وتدمير ما يصنع فراعنة العصر من قوة وجبروت، ليس انطلاقا من موازين القوى المادية والعسكرية، ولكن بميزان العزيز الجبار القدير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
في ذلك الوقت، ولد سيدنا موسى عليه السلام، فألهم الله أمه أن تضعه في تابوت صغير وتلقي به في النهر الموجود أمام منزلها؛ قال تعالى: "وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (سورة القصص: 7)، فالله هو الذي تولى حفظه، وهو الذي يتولى حفظ جميع من ينصرونه، وهو الذي يختار من كتب له الشهادة عنده.

الخاصية الثانية، هي الاستخفاف والتكذيب واستصغار الآخرين وإنكار قوتهم، فعندما اتّجه موسى إلى قَصْر فرعون رفقة أخيه هارون؛ من أجل دعوته إلى توحيد الله، والتوقُّف عن ظُلم بني إسرائيل وإرسال بني إسرائيل معهما، رفض فرعون ذلك، واستخفّ بقَوْل موسى ـ عليه السلام ـ والتفت إلى قومه؛ مُكذِّبا قَوْل موسى، ومُتَّهِما إيّاه بالجنون، فكان ردّ موسى أنّ الله هو الخالق، مظهرا له المعجزات التي أيّده الله بها؛ لتكون دليلا على صِدقه، فلم يؤمن فرعون ولجأ إلى الملأ من قومه الذين سايروه في غروره، وأخبروه أنّ موسى وهارون ساحران يريدان الاستحواذ على مُلكه، وأشاروا عليه بجَمع السَّحَرة من أجل إبطال سِحرهما، وعبر السحرة عن استعدادهم لتنفيذ المهمة مقابل الأجر والقرب من مركز القرار الفرعوني: "فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ" (41: الشعراء).

 فكانت المواجهة الحاسمة بين موسى والسَّحَرة، وهي المواجهة التي أسقطت هيبة فرعون أمام قومه قبل أن تسقط قوته الحقيقية، تماما كما سقطت هيبة العدو الصهيوني أمام العالم.

هيبة العدو الصهيوني سقطت يوم السابع من أكتوبر كما سقطت هيبة فرعون أمام قومه.

قبل المواجهة بين فرعون وموسى عليه السلام، قال الله تعالى على لسان فرعون: "قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى، قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى" (طه:57 ـ 58).

إنها مواجهة علنية وحاسمة تجري أمام أعين الجميع، وهي عبارة عن تحدّ من فرعون وملئه لموسى ولرب موسى أيضا.

قبل موسى التحدي وتم تحديد يوم المواجهة، قال تعالى: "فجمع السحرة لميقات يوم معلوم" (الشعراء:38)، وهم الذين وعدهم موسى بالأجر العظيم، وهو سلوك جميع أتباع المستبدين والطغاة الذين ينتهزون فرصة القرب من السلطة، ويستغلونها لقضاء مصالحهم.

فألقوا ما لديهم وسحروا أعين الناس، فلما ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.

فما كان من السحرة إلا تصديق ما رأت أعينهم؛ فتحولوا من قوم يبحثون عن المال والحظوة ويطمعون في القرب من السلطة، إلى قوم مؤمنين.

في هذه اللحظة بالذات، سقط فرعون وسقطت هيبته، رغم أنه ظل محافظا على الملك وعلى القوة العسكرية، ورغم تهديده ووعيده لكل من آمن بموسى، ولكنه فقد قوته المعنوية وبدأ الشك يتسرب إلى أتباعه.

هذا المعنى، هو الذي يمكن أن نقيس عليه ملحمة يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول).

لقد سقط الكيان الصهيوني وتدمرت صورته، يوم نجح المقاومون في بضع ساعات من السيطرة على غلاف غزة، محطمين هيبة الردع التي كان يتمتع بها جيش العدو، وكاشفين أمام العالم هشاشة القدرة الدفاعية للعدو، وها هم مستمرون في كشف هشاشة القدرة الهجومية له، في أطول معركة عسكرية يخوضها الكيان المحتل منذ اغتصابه للأراضي الفلسطينية سنة 1948.

رد الفعل الغاضب، هو تعبير عن العجز والارتباك، أما القوة فقد سقطت يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، كما سقط فرعون أمام سحرته.

ها نحن نلاحظ أن جيش العدو يتكبد الخسائر في الأرواح والعتاد منذ انطلاق ما سمي بالحرب البرية، وها هي المقدرات العسكرية التي تمثل فخر الصناعة الإسرائيلية تتهاوى أمام ضربات المقاومة؛ فمئات الدبابات تتلاشى أمام أعين العالم، ومظاهر الارتباك واضحة في إدارته للمعركة العسكرية التي لازالت مستمرة لمدة ثلاثة أشهر، دون أن يتمكن من تحقيق أهدافه.

لكن من خصائص الظاهرة الفرعونية، الإنكار وعدم الاعتراف بالهزيمة، تماما كما فعل الصهاينة منذ اليوم الأول، ولازالوا مستمرين في الإنكار، فقد غضب فرعون غضبا شديدا من السحرة، ليس لأنهم آمنوا فقط بموسى، ولكن لأنه رأى هيبته تسقط أمامهم وأمام الجميع، فما كان من فرعون إلا أن اتهمهم بالتواطؤ مع موسى، مدعيا أنه هو الذي علمهم السحر، وأنهم تابعون له، بل أمر بصَلْب السَّحَرة، مستمرا في إنكار ما جاء به نبي الله موسى، ووصل به الحد إلى أن يأمر وزيره هامان بأن يبنيَ له قصرا عاليا، يمكنه من الوصول إلى أبواب السماء ليرى إله موسى، ثم اتخذ فرعون قرارا بقَتْل نبيّ الله موسى؛ مُدّعِيا الخوف على قومه من أن يُخرجهم موسى من دينهم، وينشرَ في الأرض الفساد، مدعيا أنه هو ربهم الأعلى وأنه لا إله غيره.

إنها نفس السياسة المعتمدة من طرف قادة الاحتلال وشركائهم، المتمثلة في الإنكار وتزوير الحقائق واختلاق الروايات، واتهام جميع المنصفين بالتواطؤ مع "الإرهاب" وبمعاداة السامية؛ لأن نفسية الغطرسة والاستعلاء ترفض الاعتراف بالهزيمة والعجز، رغم العزلة المتزايدة التي تمر بها دولة الاحتلال وشريكها في هذه الحرب الولايات المتحدة الأمريكية، المستمرة في سياستها الداعمة بشكل مطلق للعدوان الصهيوني، دون أن تنتبه إلى أنها تتناقض مع القيم الإنسانية والأخلاقية التي كانت تدعي الدفاع عنها، من قبيل قيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهو ما جعلها تفقد بشكل تدريجي مقومات القيادة العالمية لتبدأ مرحلة النزول، كما هي سنن الله في الأولين.

والخلاصة:

أن التخليد التاريخي لقصة فرعون في القرآن الكريم، بل والاحتفاظ به كـ"مومياء" إلى اليوم، ليس أمرا عبثيا، ولكنه اختيار إلهي مقصود، قال تعالى: "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُون"(سورة يونس الآية 92).

إنه اختيار رب العزة من أجل تحطيم المنظور المادي الذي يمجد القوة في العلاقات بين بني البشر، ولفت الانتباه إلى أن القوة والعزة هي لله وحده ولرسوله وللمؤمنين.

قال تعالى: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" (الأعراف:137).

إن النهاية الحتمية المنتظرة، هي توريث الأرض للمؤمنين الصابرين المرابطين في ساحة المقاومة والشرف، وتدمير ما يصنع فراعنة العصر من قوة وجبروت، ليس انطلاقا من موازين القوى المادية والعسكرية، ولكن بميزان العزيز الجبار القدير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اقرأ أيضا: طوفان الأقصى بين النظرية الواقعية وقصة موسى مع فرعون (1من2)
التعليقات (0)