ليس المشهد عاديا على الإطلاق: تظاهرات احتجاجية من السويداء ودرعا
جنوبا إلى إدلب وحلب والرقة شمالا، مرورا باللاذقية، المعقل الشعبي ـ الطائفي
للنظام السوري، تزامنا مع استقالات جماعية في حماة.
حراك احتجاجي يكاد يكون منظما.. كل في منطقته الجغرافية، وليس أدل على
ذلك من ظهور حركات شبابية جديدة سرية، كحركة "10 آب"، وحركة "الشغل
المدني" التي أنشئت عام 2012 في الساحل السوري، وبيان لـ "الضباط
الأحرار" يؤيدون فيه فكرة المجلس العسكري الذي يقوده العميد مناف طلاس،
وتحركات لحزب "اللواء السوري" في الجنوب.
هل نحن أمام عودة إلى ما يشبه عام 2011، أم أن طبيعة الحراك الحالي
وطبيعة المرحلة يجعلان تحول الحراك الاحتجاجي الضعيف إلى حالة شعبية عارمة تعم
البلاد؟
لا شك أن هذا السؤال يعتبر سؤالا غير معرفي، لأن الإجابة عليه تبدو
مستحيلة، فهي تدخل في باب التكهن لا التوقع المبني على معطيات موضوعية يمكن من
خلالها إجراء عملية استقرار للواقع الحالي.
فروق هامة
إذا ما استثنينا تظاهرات حلب وإدلب والرقة، باعتبارها مظاهرات تحدث
في مناطق المعارضة، فما يلفت الانتباه هو المظاهرات التي اندلعت في اللاذقية
والسويداء.
شكلت هاتان المنطقتان خلال مسار الثورة السورية حالتين خاصتين،
الأولى بما تمثله من خزان بشري داعم للنظام بحكم التركيبة الطائفية، والثانية بما
مثلته من حالة حيادية غير معنية بالثورة ومطالبها في تغيير النظام، وأيضا الدافع
طائفي، حيث الأقليات لا تلتقي مع الأكثرية في المنعطفات التاريخية، لا سيما في
المجتمع السوري الذي تكمن خصوصيته في تركيبته الدينية والطائفية والإثنية، التي
أعاقت تبلور هوية وطنية جامعة، تسمح بجعل المجتمع كتلة واحدة يُمكن من فصل المجتمع
عن النظام.
وفقا لذلك، يجب إخراج البعد السياسي في الحراك الاحتجاجي الحالي في
هاتين المنطقتين، فلا وجود لرغبة في إسقاط النظام كل لأسبابه، ليبقى الوضع
الاقتصادي المعيشي هو السبب الرئيسي والوحيد لهذا الحراك، خصوصا في حالة السويداء،
فيما يسيطر الغضب في حالة اللاذقية بسبب الوضع الاقتصادي من جهة، وبسبب حالة غياب
التعويض الذي يستحقه أفراد الطائفة العلوية نتيجة عقد من التضحيات الكبرى لأجل
النظام من جهة أخرى.
بدا ذلك واضحا من خلال مطالب المحتجين وفي مقدمهم شيوخ عقل طائفة
الموحدين الدروز في
سوريا يوسف جربوع، الذي طالب بعدم قطع الطرقات والسماح للناس
بالعمل، وتراجع الحكومة عن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي أقرتها، وفتح معبر
حدودي مع الأردن لتأمين احتياجات المحافظة.
أما في اللاذقية، فالغضب منصب على شخص بشار الأسد وزوجته، باعتبارهما
رأسا الفساد والمحسوبية، وبالتالي انحصرت مطالب المحتجين رحيل الأسد دون تغيير
النظام.
المشكلة الرئيسية التي يواجهها النظام الآن أنه غير قادر على تلبية مطالب المحتجين بسبب انهيار اقتصاد الدولة الذي تحول إلى اقتصاد النهب والسلب، وبالتالي لن يكون أمامه سوى محاولة احتواء المظاهرات الاحتجاجية عبر احتواء بعض الشخصيات الفاعلة في الاحتجاجات وعبر قمع شخصيات أخرى
في كلتا الحالتين نحن لسنا أمام احتجاج سياسي، لأن
الاحتجاجات اندلعت
بعد إصدار حكومة النظام السوري قرارات برفع أسعار مواد المازوت والبنزين والفيول
والغاز السائل.
لكن تجارب التاريخ علمتنا أن مسار الحراك الشعبي ممكن أن ينتقل إلى
طور آخر بسرعة، وفقا لعوامل عدة، أهمها اثنين:
الأول، مدى توسع الرقعة الاحتجاجية في عموم سورية، خصوصا في المناطق
التي كانت حاملا قويا للثورة عام 2011 وعام 2012، وإذا ما حدث ذلك، فسيكون النظام
أمام وضع سيئ للغاية.
الثاني، طبيعة رد فعل النظام، لا سيما في اللاذقية والسويداء، فإذا
لجأ النظام إلى العنف فإنه سيدفع الطائفة الدرزية إلى رفع مستوى التحدي بما يتجاوز
مسألة الاحتجاج المطلبي، وكذلك الأمر في اللاذقية وإن بأبعاد أخرى، ذلك أن استخدام
العنف هناك يحمل في جعبته مخاطر حرب أهلية داخل الطائفة بين مؤيد للنظام ومستاء
منه.
المشكلة الرئيسية التي يواجهها النظام الآن أنه غير قادر على تلبية
مطالب المحتجين بسبب انهيار اقتصاد الدولة الذي تحول إلى اقتصاد النهب والسلب،
وبالتالي لن يكون أمامه سوى محاولة احتواء المظاهرات الاحتجاجية عبر احتواء بعض
الشخصيات الفاعلة في الاحتجاجات وعبر قمع شخصيات أخرى، بمعنى أن سلوكه هذه المرة
سيكون فرديا تجاه المحتجين، وليس جماعيا كما كان الحال مع انطلاق الثورة السورية
عام 2011، على الأقل إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
الفقر
لا يشكل الفقر في ذاته سببا للتمرد، ولو كان الفقر كافيا بوصفه عاملا
مسببا للثورة لظل العالم في حالة ثورة على الدوام، فالظلم وقمع الحريات والفقر
والاستغلال موجودة في المجتمع ما قبل الثورة، ولكنها لم تؤد إلى الثورة آليا، إن
وجودها الموضوعي وحده لا يكفي.
الفقراء فقرا مدقعا لا يفكرون في تغيير أوضاعهم، حيث تبدو الحياة
خطرة عندما يهددهم الجوع، ولهذا السبب تتملكهم نزعة محافظة شبيهة بالنزعة المحافظة
عند الأغنياء، وهذه النزعة عند الطرفين عامل مهم في إبقاء الأوضاع القائمة.
يمكن للفقر المدقع أن ينتج التحريض الاجتماعي، لكنه ليس بالضرورة أن
يعطي الناس القدرة على الاحتجاج العنيف.
طالما أن الفقر والفقر المدقع المترافق مع المظالم الاجتماعية، هما
ظاهرة اجتماعية قديمة ومستمرة، فوجودهما لا يمكن أن يشرح المشاركة في العمل الجمعي،
فما يحتاج إلى شرح هو سبب انخراط الأفراد القصدي في العمل الجمعي نتيجة لتفكير
عقلي بمصالحهم الخاصة.
يكمن الغضب في سوريا ليس في الفقر وحده، بل والأهم في مقومات الحياة
الأساسية التي بدونها يفقد الإنسان كرامته، فضلا عن وجود فئة تعتاش على هذا الوضع،
وأصبح وضعها المادي مترفا جدا في بيئة مدمرة اقتصادية، وهذا الحرمان هو الذي يؤدي
إلى الانفجار الاجتماعي.
لكن دون إدخال البعد السياسي، ستبقى الاحتجاجات في السويداء
واللاذقية وطرطوس مجرد احتجاجات مطلبية، ويتوقف الأمر على حدوث متغيرات مفاجئة
تعيد خلط الأوراق، وتفح الأمل بمسار ثوري جديد على أسس مغايرة لما حدث قبل 12 عاما.