إنّ لدولتي مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك، فيتو خفي، مستور،
وناعم، هو فيتو أفراد وليس فيتو دول، وهؤلاء الملوك لهم دسائس تقوّض الأفكار،
وتغزو العقول، وتسبي البشر، بل ويسعى رؤساء الدول وملوكها إلى استقبالهم استقبال الرؤساء،
لكن من غير مراسم رئاسية رسمية، فهم أعقل من الرؤساء الذين يلتزمون بتلك الطقوس
الشرفية المضحكة، بل إنهم يستحوذون على أقمار صناعية وشركات أغذية وأدوية، وأكبر
سلاح على الإطلاق منذ أن خلق الله الخلق، ليس السيف والقنبلة النووية والعنقودية،
إنما المعلومات والأسرار.
وكانت هذه الأسرار كنوزاً تستحصلها المخابرات بالاعتقال
والتعذيب، وقد أوجفها هؤلاء الملوك من غير خيل ولا ركاب، بل من غير دفع المذنبين للجلوس
أمام كاهن الاعتراف الذي يجلس في قفص شبكي، متمثلاً حال الرب، يرى المعترف ولا يراه.
فأصل فكرة منصة التواصل هي كرسي الاعتراف، فالرعايا في ممالكهم يجلسون ويعترفون
بأخص أسرارهم من غير طلب لمغفرة سوى لايكات الحب الكاذب.
كانت هذه الأسرار كنوزاً تستحصلها المخابرات بالاعتقال والتعذيب، وقد أوجفها هؤلاء الملوك من غير خيل ولا ركاب، بل من غير دفع المذنبين للجلوس أمام كاهن الاعتراف
ثم أطلق الملوك جوائز الانتشار والمتابعات، فمن كثر
متابعوه كوفئ بأجور مجزية، وقد أفشى هؤلاء الملوك الغرور في العامة والدهماء
وأفناء الناس، الذين بات لهم أتباع ومعجبون من غير علم ولا كتاب مبين، فمنصات
التواصل ممالك تجاوز عصبيتها الأحزاب المعاصرة وهي أكبر منها وأشد ملكاً وأعظم
قوة.
وقد ظهرت منصات جديدة
مثل
ثريدز لمالكها مارك زوكربيرغ، بعد إعلان إيلون ماسك إجراء تعديلات دستورية على
تويتر، وإعلانه ما يشبه الأحكام العرفية في قفص العصفور الأزرق، فكمَّ الأفواه، وحدد
سهم الفرد في رعيته التموينية من مؤونة القول بثلاثمائة تغريدة لغير المسجلين
النازحين إلى مملكته، دفعاً لهم إلى توثيق الإقامة لدى مختار ديار تويتر.
المُلك شراهة، وهو عضوض.
أما منصة بلو سكاي الجديدة، فتشترط دعوة من مشترك، وهو
ما يعادل الكفيل في بعض دول الخليج ودويلة "بي كي كي" النفطية المتخلّجة.
وكانت منصة تيك توك الصينية قد خلبت ألباب رعايا وسائل التواصل، ووضعت من منزلة
الممالك القديمة مثل
فيسبوك وتويتر وإنستغرام، وهي منصة منبوذة في عدة دول مثل
أمريكا وفرنسا، جعلت الرؤساء من شدة جاذبيتها يتحسّبون من خطرها وأثرها على أخلاق
الأجيال الجديدة، حتى أن بعض هذه الدول الغربية سنّت قوانين تحظرها.
ويعلم القارئ أن منصة تيك توك في الصين مقيدة بشروط وقتية
وأخلاقية، فحصة الصيني منها نصف ساعة، فالوقت ثمين، وهي أكثر حرية خارج الصين، وإن
فرط الحرية شرّ، وإن المنصة الصينية تيك توك جعلت أقواما ينزحون من فيسبوك وتويتر
ويخلفونها بلاقع. وقد تفقّد كاتب السطور بعد سنتين من هجرته من فيسبوك بعض
أصدقائه، فوجد الديار خاوية، والمنازل أطلالاً، وتلك سنّة الله في خلقه، فما رفع
الله شيئاً إلا وضعه.
أما سبب ولع أهل الخليج بتويتر، وتفضيل السوريين
والمصريين فيسبوك، فمردّه أن وقت أهل الخليج أثمن، ومرابع فيسبوك أوسع وأبسط وإن
كانت قيودها أشد وأوثق، إذ أن منصة تويتر تشترط عدداً نزيراً من الحروف، فملك تويتر يؤمن بالقول العربي: البلاغة في الإيجاز.
شكا أعلام من مشاهير فيسبوك من عسف ملك فيسبوك وظلمه،
وسبي أتباعهم، والحجر عليهم، ونزع ملكهم، فالملوك الكبار يخشون الملوك الصغار
ويقصون أجنحتهم خوفاً من انقلابات. ووجد هؤلاء المشاهير بعد تدبّر أن بعض
منشوراتهم تعلق وتحجز، وتنعم وتحذف، فاضطروا إلى استخدام الرموز للاحتيال على المراقبين،
الذين يقيمون في مركزين من مراكز إدارة العقول والجيوش السوداء هما؛ الأختان
الشقيقتان الإمارات وإسرائيل، فإسرائيل والإمارات دولتان متشابهتان في النشأة والغرض،
واحدة باسم عبري والثانية بلسان عربي.
ونذكر بأنه قبل سنتين أشعرت واتساب مستخدميها، بخرق
قواعد
الخصوصية، وإلزام مشتركيها مشاركة بيانات مستخدميها على فيسبوك، فنزح منه
الملايين نحو منصة سيغنال، خوفاً من فضح أسرارهم وابتزازهم بها، فاضطر راعي واتساب
إلى المهادنة، فالأسرار كنز، سيستفاد منها في البأساء والضراء وحين البأس. ولو قنع
أباطرة ممالك وسائل التواصل بأسرار الناس، لكان خيراً لهم لكن الملك عقيم، وشراهته
لا تقف عند حد، بل إن إيلون ماسك يطمح إلى زرع شرائح في رؤوس الناس، كما أعلن قبل
حين، تحيل البشر إلى قطعان من الآلات والروبوتات.
جاء في المأثور: منهومان لا
يشبعان؛ منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في
دنيا لا يشبع. وأسرار الناس علم ودنيا معاً.
حشر الناس في قماقم وسائل التواصل، ومنصات التواصل شركات عابرة للقارات تمسح العقول وتمسخها. ونجد بين الحين والآخر أعلاماً يدعون الناس إلى العودة إلى مصادر العلم الأولى وهي الكتب والمعلم
هذا ليس مقالاً في حمد منصة وذمّ أخرى، وقد تداعى الأكلة
على قصعتها، وحشر الناس في قماقم وسائل التواصل، ومنصات التواصل شركات عابرة
للقارات تمسح العقول وتمسخها. ونجد بين الحين والآخر أعلاماً يدعون الناس إلى العودة
إلى مصادر العلم الأولى وهي الكتب والمعلم.
ونستطيع القول إنّ وسائل
التواصل الاجتماعي حوّلت غطاريف
الناس وسراتهم إلى أطفال، يستبيحون القول ويستهينون بالبراهين ويحتقرونها، ويعترفون
للناس بما لا يعترف المرء به حتى حين يناجي نفسه. فالمرء مهما كان وقحاً وجلفاً،
يحفظ لسانه في حضور الآخرين، لكنه يعمى في هذه المنصات التي يراه الناس فيها ولا يراهم،
فسكان وسائل التواصل هم أشباه العميان، والعميان معروفون بسلاطة اللسان والوقاحة،
أو الجهر بخلجات النفس الكامنة. وقد قيلت أمثال عربية في ذلك، منها قولهم "وقاحة
العميان"، فمن أَمْثَال الْعَامَّة أوقح من الْأَعْمَى لِأَن الْحيَاء في الْعين وَلَيْسَت لَهُ وَأحسن مَا سَمِعت في ذمّ الْأَعْمَى، قال الشاعر:
كَيفَ يَرْجُو الْحيَاء مِنْهُ صديق وَمَكَان الْحيَاء مِنْهُ خراب
وقد أكثر الناس من الاستعراض والفخر في هذه المعارض
والمسارح لكسب الإعجاب وتحصيل المال، ولم ينج سوى القليل من عرض أسراره، وإظهار
عواطفه السياسية والدينية، فكسب قلوباً بعيدة وخسر قلوباً قريبة، ودفع ناساً من
مشاهير وسائل التواصل إلى الانتحار.
لقد فعل ملوك كواكب التواصل الاجتماعي برعاياهم
الأفاعيل، فقد كان الطغاة السابقون؛ نمرود وفرعون والأسد والقذافي وصدام، يعجزون
عن سرائر الناس، فاستبد الملوك الجدد بسرائرهم ونهبوها، لكن من غير سجون مثل تدمر وتزمامرت.
فهذه الممالك الزرقاء سجون موحشة ومدافن للأحياء، يجوز عليها ما يجوز على المدن
التي تغوص في الماء بسبب الصوبة الحرارية أو تصاب بالتصحر.
twitter.com/OmarImaromar