ذكّرنا مقتل نائل المرزوقي، فتى الديلفري، بمقتل طائفة
من الفتيان الضحايا؛ محمد البوعزيزي في تونس، وخالد سعيد في الإسكندرية المصرية،
وحمزة الخطيب في درعا السورية.. وقد هلك نائل من غير تعذيب، لم يعانِ مثل خالد
سعيد، أو حمزة الخطيب، أو محمد البوعزيزي. وثمة فرق آخر غير القتل السريع الذي حظي
به فتى الضواحي، هو انتصار الإعلام العربي الرسمي في عواصم الثورة المضادة للحكومة
الفرنسية، عن جنب، حتى كاد بعضها أن يجمع تبرعات مالية للشرطي القاتل، بل نعت
افتتاحية صحيفة سعودية على لسان رئيس تحريرها ضعف الحكومة المركزية الفرنسية،
كأنها تحثُّ ماكرون على أن يقتدي بالأسد أو يأتسي بالسيسي أو يهتدي بقيس سعيد،
وتدعوه للضرب بيدٍ من حديد.
انبرى إعلام عرب ماميكا في الدفاع عن الشرطي القاتل، فتبنّوا
أقواله، بدفع الصائل، فقد قتل دفاعا عن نفسه ضد محاولة الفتى نائل دحمه وزميله
بالسيارة، بعد تجاوزه الإشارة الحمراء، لولا ظهور فيديو كذّب الدعوى، اضطر إثرها إلى
تغيير أقواله والبحث عن كذبة جديدة، فزعم أنه صوّب الرصاص على قدمي الضحية، لكنها
طاشت فأصابت الصدر. الحق على الرصاصة الطائشة التي غيّرت مسارها وانعطفت في الكوع!
وتهتم صحف العواصم العربية المتعافية من الثورات الشعبية
والمتحسّبة لها بكل أحداث العالم، فإن كانت الأخبار تمسّ المسلمين مثل الإيغور أو
انتخابات تركيا، بخست الأخبار ومسختها، أو أهملتها وتجاهلتها، وإن كانت مهرجانات أوروبية
أو مباريات عالمية احتفت بها، وأعلت من شأنها تصريفا لمشاعر الغضب أو إشغالا
للشعوب بالفنون والمتع، من ذلك أنَّ صحيفة سعودية أبرزت عنوانين مسكنين للغضب تفيدنا
أن الشرطي "المبتلى" بالقتل الخطأ، اعتذر من أهل الضحية، ونادم أشدَّ الندم،
حتى كادت أن تقول إنه سيصوم شهرين متتابعين تكفيرا للقتل الخطأ!
ليس بين الزعماء العرب مثل أردوغان بالشجاعة والبأس والعقل والدين وفنّ إدارة الدولة. والعواصم العربية تخشى من حلم العرب بزعيم قوي يشبه أردوغان، فلذلك دعت لخصمه وبشّرت به. وهي توجل من قتل بريء قد يقلّب عليها المواجع، فهي تتأخر في رد الفعل، وما تزال تدافع عن الشرطي الفرنسي حتى إنها أشاعت أنه من أصل مغربي، فالقاتل والمقتول عربيان يختصمان في بلد أوروبي سكانه البيض ملائكة
ليس بين الزعماء العرب مثل أردوغان بالشجاعة والبأس والعقل
والدين وفنّ إدارة الدولة. والعواصم العربية تخشى من حلم العرب بزعيم قوي يشبه
أردوغان، فلذلك دعت لخصمه وبشّرت به. وهي توجل من قتل بريء قد يقلّب عليها المواجع،
فهي تتأخر في رد الفعل، وما تزال تدافع عن الشرطي الفرنسي حتى إنها أشاعت أنه من
أصل مغربي، فالقاتل والمقتول عربيان يختصمان في بلد أوروبي سكانه البيض ملائكة.
استضافت الجزيرة أمس الأحد باحثين فرنسيين في نشرة
الحصاد، أنكرا اتهام الجمهورية بالعنصرية، ودللّا على براءتها بقول أحدهما إنّ
الدولة توظف الوافدين في الشرطة، وهو برهان متهافت، منتشر في الأفلام الكوميدية السوداء،
انتبه له المذيع المستضيف محمود مراد، بل إنهما كليهما اتهما الوافدين والمهاجرين
بارتكاب الجنح والجرائم؛ الفرنسيون ملائكة وأبناء المستعمرات شياطين! ولو أنهما
ألحن حجةً، لاستشهدا بلاعبي الفريق الفرنسي لكرة القدم، فمعظم لاعبيه من أصل أفريقي،
فالوافد يحتاج إلى موهبة خارقة مثل موهبة امبابي حتى يرتقي إلى رتبة مواطن فرنسي
من العامة.
وزعموا أنَّ الفتى هرب من الشرطة فقتلوه، بينما يُظهر
الفيديو الذي صوره مجهول قلّب عليهم المواجع؛ أن سيارة الديلفري انطلقت بعد تحرر
دعسة البنزين بمقتل الفتى. ولم يُعثر للشرطي على اسم حتى الآن، فإما أنّ سبب طمس
اسمه هو جبر الحكومة الفرنسية لعثرات الكرام، وإما خوفا من إيذائه والانتقام منه.
وكانت الحكومة الفرنسية التنويرية التقدمية التي ترفع شعار الحرية والمساواة
والأخوة قد سنّت قانونا يمنع تصوير الشرطة، لأن تصوير الشرطة في زي النينجا عورة!
استضافت القنوات الفرنسية ضيوفا مثل ضيوف القنوات
المصرية والسورية والتونسية أقوياء العارضة وبارعي الحجة، ينافحون عنها، فألصقوا بالضحية
تهما كثيرة، فهو صاحب سوابق، وشقيّ، ومشبوه، ويقود سيارة من غير رخصة، لكن والحق
يقال إنهم لم يبلغ بهم مبلغ قنوات النظام السوري، باتهامه بسفاح المحارم، أو
الانتساب إلى داعش. وتتقدم باريس عواصم ماميكا العربية في أنها لم تقتل بعد ستة
أيام من الغضب والحرائق والخسائر سوى ضحية واحدة، فهي رائدة حقوق الإنسان، ولا
تستطيع أن تفرّط بسمعتها كما تفعل عواصم ماميكا، في عصر كاميرا الجيب.
تهمة المخدرات هي نفس التهمة التي كيلت لخالد سعيد، وزعم
محللون وأصحاب رأي أن وراء غضب سكان الضواحي جهات عالمية ماسونية، ردّا لفرنسا من
الكاثوليكية إلى دينها الأول، دين العالم الجديد وهو الوثنية.
مهما يكن فقد اجتهد إعلام العواصم العربية المذعورة من
غضب الشعوب ومفاجآت القدر الديلفري في الدفاع عن الحكومة الفرنسية، ضد غضب المساكن الشعبية
التي استقبلت الأسد استقبال الأبطال، وصوتت في الأمم المتحدة ضد قرار تأسيس لجنة
للبحث عن المفقودين السوريين البالغ عددهم الرسمي مائة ألف، وهم أكثر من ذلك، إما
حماية لبطلهم بشار الأسد الذي قمع أشد ثورة عربية ضد الطغيان، وإما خوفا من تأسيس
لجان أممية بحثا عن المفقودين في العواصم العربية الشقيقة.
تجاهل إعلام عرب ماميكا خبر ثورة سكان الضواحي الذي كان
خبرا أول في الإعلام العالمي، بل إن أعلاما عربا غرّدوا ضد العرب المتخلفين المقيمين
في
فرنسا، والذين يأكلون من الصحن ويبصقون فيه، الذين أفسدوا بلدانهم ويحاولون
تخريب العواصم الأوروبية الجميلة، وربما نسمع بمساعدات مالية عربية لفرنسا تعويضا
عن خسائرها في قابل الأيام. وليس المستجلبون من المستعمرات الفرنسية أول من تمرد
على حكومة ماكرون، فقد سبقهم أصحاب السترات الصفراء، ومعارضو قانون التقاعد، وهم
فرنسيون بيض، شقر، أحرقوا ودمّروا. والحاصل أن الأبتر ماكرون، كلما رقّع ثوبا خُرق
له ثوبٌ آخر. إن الله لا يصلح عمل المفسدين.
مؤازرة الإعلام الرسمي الإماراتي السعودي لم تكن للحكومة
الفرنسية "الشقيقة" وحدها، وإنما للحكومة
السويدية الرقيقة المتهمة بخطف
الأطفال، فقد تجاهلت أكثر العواصم العربية حرق
المصحف في السويد، أو تأخرت في إظهار
استيائها، أو إخفاء فرحها بحرق المصحف الذي يتوعد الظالمين، ذلك لأنهم من الذين
رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها.
مؤازرة الإعلام الرسمي الإماراتي السعودي لم تكن للحكومة الفرنسية "الشقيقة" وحدها، وإنما للحكومة السويدية الرقيقة المتهمة بخطف الأطفال، فقد تجاهلت أكثر العواصم العربية حرق المصحف في السويد، أو تأخرت في إظهار استيائها، أو إخفاء فرحها بحرق المصحف الذي يتوعد الظالمين، ذلك لأنهم من الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها
وظهر أمين رابطة العالم الإسلامي محمد العيسى على قناة أم
أربعة وأربعين، يتلطف بفعلة سلوان ماميكا بعد وصفه بالحقد والفساد، وأعلمنا أن
القرآن محفوظ بحفظ الله، وكأننا عن هذا غافلون، وأن ما أحرق هو نسخة واحدة. وخشي
المشاهدون أن يقرن حرقه المصحف بحرق عثمان للمصاحف، وأنَّ المطابع السعودية ستطبع
آلاف النسخ تعويضا عن حرق تلك النسخة، وأن فعلته قانونية، ودستورية. وكذّب واقعة
محاولة حرق التوراة التي أحبطها أهل التوراة في السويد، وهي واقعة مثبتة، ونهى عن
مقاطعة البضائع السويدية، فالمقاطعة عمل سيادي من أعمال الدول، ولا يدخل الجنة
قاطع رحم أو بضائع سويدية، وأنّ رجال الأعمال السويديين أبرياء من فعلة الحاقد
المحرق، فلعلهم ضد حرق المصحف، ولا يؤخذ البريء بالمسيء، فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين. وبرّأ حكومة السويد التي تلزم دستورها وتتبعه.
الدستور هو المقدس وليس المصحف أيها السادة، وإن نقلنا
خطبته من لغة الدستور إلى لغة الدين، وقعنا على الحديث الشريف المفضل لدى السلاطين
العرب: اسمَعْ وأطِع في عُسرِكَ ويُسرِكَ ومنشَطِكَ ومَكْرهِكَ وأثَرَةٍ عليكَ،
وإن أَكَلوا مالَكَ وضرَبوا ظَهْرَكَ وحرقوا مصحفك.
رابطة العالم الإسلامي رابطة محدثة، وأمينها غير منتخب،
كان يخطب في لقاء تلفزيوني، ردّا على سؤال من مذيع اكتفى بسؤاله ثم ذاب، كأنه فص
ملح وذاب من الشوق.
يبقى أنَّ التيار الوحيد الذي أجيز له الغضب الصريح في
عاصمة عربية، واقتحام السفارة السويدية في بغداد، هو التيار الصدري الشيعي، الذي
تربّى حارق المصحف في كنفه، في كتيبة صقور السريان، فاقتحم السفارة السويدية ورفع
راية الحشد الشعبي، وأعلام القائم بأمر الله، فالحشد هو الذي زرع الشوك، وهو الذي
حصد مجد الدفاع عن المصحف.
وإن الثورات المخمدة في عواصم ماميكا انتقلت إلى دول أوروبية
أخرى، مثل بلجيكا وهولندا، وهي دول معروفة بميراثها الاستعماري الاستعبادي الأسود.
فنحن نعيش في قرية، أو نسكن في أكواخ متجاورة هي علبة هاتف اليد.
twitter.com/OmarImaromar