آراء ثقافية

"جنيات إنيشيرين" فردوس ينساب له الخراب

.
.
يعزل "مارتن ماكدوناه" أبطال فيلمه الأخير على جنة أرضية في جزيرة أينيشيرين الإيرلندية المتخيلة، جزيرة مطلة على الحرب الأهلية الإيرلندية عام 1923، تكاد تكون حلما لكل من شاهدها، بسهولها الخضراء وهدوئها، تأوي مجموعة صغيرة من السكان الضجرين الذين نأوا بأنفسهم عن الحرب الدائرة على البر الرئيسي، أشبه بفردوس وحيد بسكانه، فردوس ينساب له الخراب من بعيد حتى يتحطم تدريجيا من الداخل.

قدم المخرج الإيرلندي/ الإنكليزي فيلمه الجديد "the Banshees of Inisherin أو جنيّات إينيشيرين" برفقة كل من (برندان غليسون) بدور كولم و(كولين فاريل) بدور بادريك، وهما أبطال فيلمه السابق "in Bruges" ليترشح الفيلم لمهرجان الأوسكار ومهرجان كان، ويفوز بجائزة دائرة نقاد نيويورك.

كانت الساعة الثانية ظهرا عندما أعلن كولن عبر صمته قطع صداقته مع بادريك، هذا القطع الذي جاء دون سابق إنذار بالنسبة لبادريك الشاب البسيط الطيب، فجأة يتوقف كولم الأكبر سنا عن المجيء إلى الموعد اليومي في حانة الجزيرة، مما يقطع روتين حياة بادريك ويتركه مع شكوكه حول سبب هذا البتر الفجائي، تلك الشكوك التي سرعان ما ينسل إليها تعليقات وتعقيبات أهالي الجزيرة الصغيرة، الذين ينبشون عن حكايات في ظل سكينة وهدوء الجزيرة المخيف، متعطشين كما صاحبة محل البقالة لأيّة قصة أو حدث يثير حياتهم، متلهفين لكل تفصيل جديد سواء من البر الرئيسي البعيد الذي لا تسمع منه سوء أصداء أصوات قصف المدافع، أو بعض الأخبار التي ينقلها الأهالي عن خصوصياتهم.

بعد محاولات بادريك المتكررة لفهم سبب سلوك كولم الغريب بالنسبة له، يخبره كولم بكل بساطة السبب هو الملل، فبادريك غدا شخصا غير مثير للاهتمام، ويمكنه أن يتكلم لساعات عن روث حصانه وحمارته جيني وكولم لا يملك ما يكفي من الوقت ليقضيه في سماعات هذه التفاهات، كولم العجوز الذي يؤرقه الملل ويرغب بالخلود في ظل سكينة الجزيرة القاتلة هاجس الوقت يضيق عليه، لا يريد أن يموت كشيء هامشي مثل جزيرة إنشيرين، يبحث عن معنى للفترة المتبقية من حياته في صراع مع الوقت المتبقي له ينبش في تفاصيل حياته، ليقرر أن الفن هو من يستطيع تخليده، وبمحاولته صناعة هذا الفن يصنع صراعا مع بادريك يكسر من رتابة الملل والروتين في حياته، ليجد في الكمان وصناعة لحن خالد استعارة للخلود الذي يبحث عنه، أن تخلق وتبتكر يعني أنك خالد ولن يهزمك الوقت والملل وتكون مجرد مواطن عادي من إنشيرين، وكأن الفن استحال وعد بالسعادة الأبدية أشبه بأفكار ستاندال الرومانيكية.

بالرغم من السكون والجمال البصري الكثيف الذي يغلف المكان، يشعر كولم باللاجدوى حدّ الاختناق، وكأن الجمال المطلق والسكون القاتل للجنة المستعارة بجزيرة، هو في حقيقته اعتلال وشذوذ عن الواقع المشوه، كولم بحاجة لخلخلة في رتابة هذه السكينة وهذه الجنة ليستطيع الخلق والتوليد مما يحقق له الخلود، وهذه الخلخلة تأتي بقطيعة مع بادريك تنهال على الثاني كصاعقة لعدم قدرته على إدراك هذا الفعل، الذي يفهمه من منظوره ورؤيته للعالم على أنه فعل قاس وسيئ، فعل لا يمكن أن يقوم به صديق بلا سبب.

في مواجهة كولم، يضع ماكدوناه بادريك نقيضه الإنساني، البراءة التي تصل إلى حدّ أن تكون مغفلا ومغيبا عن الواقع، في مقابل كولم الذي يمثل الإنسان في ذروة سؤاله عن معنى الحياة والخلود وقلقه ومخاوفه الوجودية، بادريك الذي يمثل الحساسية الإنسانية، الحساسية التي تعني القابلية للخدش والهشاشة، وعبر هذا الخدش تحدث الإصابة التي هي لحظة الحقيقة في الرؤية والوعي، فدون ضرر لا توجد حقيقة أو إدراك حسي، بادريك الذي يشبه في لحظة ما آدم المستغرق في الفردوس قبل أن يهبط من الجنة، الذي يعلن أخيرا أنه يرى عبر رده على كولم بعد وصول الصراع لنهايته، حيث يخبره كولم أن "أصوات المدافع قد توقفت، مما يعني أن الحرب قاربت على نهايتها"، ليرد بارديك بقوله: "بعض الأشياء لا تتغير لن تتوقف الحرب"، وكأنه امتلك رؤية جديدة مغايرة بعد الخدش، رؤية تجاوزت حدود إنشيرين.

وضع هذين النقيضين لزعزعة استقرار الجنة المتخيلة، خلق جانبا من الكوميديا التي وظفها ماكدوناه لتخدم تركيبته الإنسانية، في خضم سؤال وجودي عن العلاقات والصداقة عن الإنسان ومصيره وعن الحرب، يجعل بارديك الإنسان الذي لم يشوه من الممكن تسميته الأنقى الذي لم يفكر يوما بسؤال عن ماهيته، يقف في وجه كولم في ذروة قلقه وانغماسه بمعنى الحياة، ليقول له في لحظة ترنح من السكر، بكل صدق ومباشرة: "أنت لست لطيفا، لم تعد لطيفا ولم تكن يوما". ويلخص مفهومه للعلاقات باللطف في مقابل رجل يكلمه عن الفن والخلود والفكر، فما نفع الفن إن لم تكن لطيفا وتستطيع التعامل بحساسية مع الأخرين؟

يتحول كل الخصام إلى حقيقة في لحظة تصريح كولم بأنه سيقطع أصبعا من أصابع يده التي يعزف بها، في حال عاد بادريك للتكلم معه، وفي لحظة يغدو التهديد جديا عندما يرمي كولم أصبعا مقطوعة على باب منزل بادريك! عنف مخيف ومدمر، عنف على الذات سيدمر كولم فيه وسيلته لصنع لحن خالد لإثبات صحة قراره بقطيعة بارديك، بإثبات أنه عرف كيف يهزم وتيرة الملل الذي قد يصنع إما فنا و أدبا أو عنفا مدمرا. يغدو قطع الأصابع عندما يتخلص منها كولم بأكملها ويعزف بعدها بيد مبتورة ينساب منها الدم، أشبع بفعل طقسي ديني، وكأنه تحول لشيء أسمى.

إلى جانبهم نرى شيفون أخت بادريك، الفتاة التي تنبذها الجزيرة أشبه بالبطل التراجيدي ضمن الحبكة، التي لا يناسبها المكان والزمان، فوعيها متقدم على حدود إنشيرين الضيقة لذا ستكون منبوذة، تعي شيفون هشاشة بارديك وتحاول مساعدته، فهي تعرف أن أخاها ممل، ولكن بذات الوقت عليها الصراع من أجل أن تبقى، فتقوم بالفعل الأكثر تحررا في الفيلم؛ فهي من تقرر الرحيل من الجزيرة إلى البر الرئيسي رغم أصوات المدافع والرصاص، إلا أنه حرية بالنسبة لها. فوسط كل الصراعات في الفيلم، إلا أن الشخصية الأنثى الوحيدة هي التي تقوم بالفعل التمردي والتخلي والمغامرة في البحر.

أطلق ماكدوناه على الفيلم اسم "جنيات إينيشرين"، وكان يقصد بها "البانشي"؛ وهي أسطورة فلكورية إيرلندية عن أرواح نساء ترتدي السواد، ينبئ حضورها بموت في القرية، ووضعها بشكل مباشر بصورة العجوز "ماكورميك" التي تجسد البانشي، والتي تنبئ بالموت، والتي يتجنبها الجميع.

على الموت أن يأتي للقرية بعد تنبؤ العجوز بالخطر، خصوصا في خضم صراع الصديقين الذي قتل براءة بارديك بعد موت حمارته "جيني" بفعل قسوة كولم، بعد أن تناولت أصبعا مبتورا من الأصابع التي رماها، ولكن الموت كما تنبأ به البانشي هو موت فعلي ويصيب دومنيك الفتى الوحيد حدّ الاختناق، ابن شرطي القرية القاسي الذي يضربه ويغفو في المنزل عاريا بعد استمنائه المرفوض من العالم، يجد فرصة في قطيعة كولم لبادريك، فيحاول التقرب من الثاني ويلتصق به كظل له، وبتغير بادريك، ينسحب الفتى دومنيك تدريجيا ليجد فرصته الأخيرة في خلق دافع للحياة، فيقوم بالتصريح لشيفون بحبه لها، ويأتيه الرفض الأخير فينتحر محققا نبوءة البانشي، ينتحر بهدوء في النهر ليموت بصمت وسكينة تشبه جزيرته وجنته التي رفضته.

الجنة التي سئم منها كل من فكر في معنى الحياة، التي استطاعت الكارثة أن تتطفل على فضائه المعزول تقترب شيئاً فشيئاً، تشبه الجزيرة بصمتها وتناقضها مع الكارثة حالة اللاتجانس الجذري بين الداخل والخارج، هذا اللاتجانس الذي أثقل الروح حتى انفجرت الكارثة داخلها وقتلت البراءة والسذاجة التي لا تناسب شروط الحياة في هذا العالم القاسي الذي تنساب له فقط أصوات القتل والقصف.
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الإثنين، 19-06-2023 02:37 م
'' لا أتذكر شيئاً .. سوى إني فتحت الباب، فدخلت كل هذه الأيام غير مفهومة !! '' 1 ـ (سينما شعب) فيلم 1994: "أبسولوم 2022" في عام 2022، وصل بطل حرب سابق مسجون لارتكابه جريمة قتل إلى أماكن ذات إجراأت أمنية مشددة في أحد السجون حيث يسود سجين قاسٍ. المدان يقف في وجهه، وتسقط العقوبة على الفور: يتم نفيه وإرساله إلى أبسولوم، وهي جزيرة سجن مخصصة خصيصًا للمتمردين. فقط الهروب من الجزيرة ممنوع، ولا يعرف قوانين أخرى غير قوانين الأقوى في مستعمرة العقوبات، تدور أحداث القصة في المستقبل القريب راي ليوتا "جون روبينز" بطل حرب مصاب باضطراب ما بعد الصدمة مسجون لإطلاق النار على ضابطه الأعلى غير راغب في السلطة، تم إرساله إلى أماكن ذات حراسة مشددة من نوع جديد من السجون. كما هو الحال في كثير من الأحيان في هذا النوع من القصص، المخرج الذي يلعبه مايكل ليرنر هو سادي لا يرحم يقهر المتمردين باستخدام أساليب مشكوك فيها. وأولئك الذين لا يريدون الامتثال لأوامره يتم إرسالهم إلى أبسولوم، وهي جزيرة سجن لا يهرب منها أحد. في أبسولوم، هناك قانون واحد فقط، هو قانون الأقوى. تتصادم قبيلتان. من جهة، الغرباء، المتطرفون ينخرطون مع قائدهم هو ماريك، شخصية تم تفسيرها من قبل ستيوارت ويلسون "سلاح فتاك 3" في وضع لحم الخنزير الكبير، عيون متدحرجة، ابتسامة آكلة اللحوم وخطوط قاتلة. من ناحية أخرى، المطلعون، النزلاء الذين يريدون العيش بسلام والتعبير عن أخطائهم في مجتمع لهجات الهيبيز. يسمون زعيمهم "الأب"، الذي أقامه لانس هنريكسن كل ذلك بحكمة وضبط النفس. طاقم عمل عالي الجودة هناك أيضًا إرني هدسون اللطيف دائمًا ومليء بالوجوه التي نتذكر وجهها ولكننا لا نذكر الاسم أبدًا لنص بدون مفاجآت يأكل قليلاً على جميع الرفوف "وصف أحد النقاد الفيلم بأنه مزيج بين جنون. ماكس وفورتريس ، وهذا ليس خطأ". ولكن حتى لو كان الفيلم يعاني من بعض مشاكل الإيقاع مع مرور ساعتين تقريبًا، فإن الأمر برمته طويل جدًا، فقد وقع مارتن كامبل سلسلة صغيرة جيدة مع إبسولوم 2022، مع إعدادات طبيعية محسنة جيدًا وأجزاء حركة جيدة بشكل رئيسي الهجومين المجتمعيين .. الفيلم الثاني رائع ونادر من المملكة المتحدة رباعي لفيلم مارتن سكورسيزي المثير النفسي "شاتر آيلاند" لعام 2010 مع أحد أعظم ممثلي هوليود "ليوناردو دي كابريو" داكن شجاع و مليء بالحيوية تم إرسال تيدي دانيلز وتشاك أولي، وهما حراس أمريكيان، إلى ملجأ في جزيرة نائية من أجل التحقيق في اختفاء مريض، حيث اكتشف تيدي حقيقة مروعة عن المكان. 2 ـ (الحقيقة.. من أفلاطون إلى "التَّك تُوك") قصة كهف أفلاطون تؤكد أن الناس غالباً ما يكونون عبيداً لحواسهم المباشرة، حتى وإن كانت زائفة أو مُفتَعَلة ولا تعكس، إن هي عَكَسَت، إلا جانباً واحداً من الحقيقة. تصوروا إذاً لو نحن أسقطنا قصة كهف أفلاطون على الزمن الحالي بكل ما يحمله من "حقائق" افتراضية لا علاقة لها إطلاقاً بالواقع، وعلى الرغم من ان أفلاطون نفسه كان لا يثق أبداً بالفن والصور بشكل عام، وذلك لما كان يراه من قوة للصور في إثارة الحواس بشكل عام وبأي طريقة كانت، لذلك فقد زخرت جمهوريته بالحوارات حول ضرورة إقصاء الشعراء من الجمهورية، أي جمهورية أفلاطون ومدينته الفاضلة، وتقييد ماذا ومتى وكيف يمكن تداول الصور. مشكلة افلاطون مع الصور أصبحت اليوم في ظل التكنولوجيا مضاعفة، فبحسب رؤيته كانت المشكلة الأساسية في الصور أنها تشبه وتختلف في آن واحد مع الواقع، وبشكل قد يشوّه أو يُجمّل أو يغيّر الواقع. فكيف يا ترى ستكون رؤيته لو أنه عاصر زمن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والروبوت اليوم؟ الحقيقة إذاً ومنذ أفلاطون إلى عصر التشات جي بي تي والتِّك تُوك وحفلات الهولوغرام الغنائية هي عرضة لتقدير المشاهد أو المتابع، فإن كنا لا نستطيع أن نهرب من إغراأت وإملاأت كل هذه الوسائط التكنولوجية لما تملكه من قوة، فعلى أقل تقدير نحاول أن نخرج منها إلى ما وراء الصورة أو المشهد، أي أن نتوجّه بالبحث عمّا تُنتجه هذه الصور من مشاهد، فهي في النهاية مجرد إشارات لحقائق بعيدة لا تراها كل الأعين ولا تلتقطها كل الأنفس "بقلم سعاد فهد المعجل قبس الكويت". 3 ـ (حكاية متقاعد) إستأجرت غرفة لا بأس بها في إحدى الأحياء الفقيرة، فيها نافذة زجاجية تطل على شجرة عملاقة تحط عليها مجموعة من الطيور، و أنا في كل أفتح النافذة لأضع لهم صحناً من الماء و صحناً آخر من الحبوب أو بعضاً من البقوليات، فتأتي حينها الطيور و تتجه نحو النافذة كي مرادها .. الغريب بالأمر اليوم في الصباح الباكر ذهبت إلى البنك لأقبض معاشي التقاعدي و لكن لا أتأخر عليهم كعادتي في كل صباح بتقديم الطعام و الشراب للطيور كنت قد جهزت لهم الصحون و وضعتها خارج النافذة. عدت عند الظهيرة إلى البيت .. و ما إن رأوني في الشارع حتى باتو يطيرون و يغردون من حولي إلى أن وصلت لمدخل العمارة .. بعد ذلك دخلت غرفتي، و نزعت معطفي و هممت بفتح النافذة لأتفاجأ بالصحون كما هي لم ينقص منها شيء .. نظرت أمامي إلى الشجرة رأيتهم جالسين ينظرون إلي .. و ما أن فتحت النافذة حتى جاووني مسرعين ليأكلوا و يشربوا .. عندها فقط عرفت قيمتي عند هؤلاء الطيور التي لم أعرفها طوال هذه السنين عند البشر !! .. 4 ـ (يا طلب الحكاية) سمعت حكاية قديمة في الطفولة تقول: ذهب بعض الناس للبحث عن الكنز المفقود و أثناء هذه الرحلة الطويلة إكتشوا أن الناس الدين إلتقوا و تعرفوا عليهم و تحبوا بينهم هو الكنز الحقيقي.
الأكثر قراءة اليوم