تعرض الراحل الشيخ محمد متولي
الشعراوي منذ وفاته في 17 حزيران/ يونيو 1998م
لنوبات هجوم متعددة من كُتَّاب وصحفيين أدباء عاصروه، ولم يكن الأمر غريباً أو
مستهجناً، فحتى في حياته لقي الرجل هجوماً عارماً ومعارك ضارية من بعض الرموز (سواء
اتفقنا أم اختلفنا معها)، هدأ بعضها وسكن بمجرد سكوت الشيخ المعتاد وامتناعه عن
الرد، وامتد البعض الآخر رغم ذلك لفترة أطول مثلما حدث مع الأديب والكاتب الراحل
يوسف إدريس.
وقد أذكى الإعلام والصحافة المعركة منتهزين "عفوية" إدريس وحدته
مع مخالفيه، حتى لو كان أحدهم الأديب الراحل نجيب محفوظ، وبالتالي تصريحاته الحادة
في مناسبات عامة كلقاءاته الفكرية في معرض القاهرة للكتاب، فضلاً عن تدخل جريدة كـ"اللواء
الإسلامي" التابعة للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في أواخر الثمانينيات من
القرن الماضي واستضافتها إدريس وعلماء أزهريين نيابة عن الشعراوي، فكانت ظاهرة
المعارك التي تثار حول الشعراوي سواء حول أفكاره أو طريقة عرضه لتفسير القرآن
الكريم المذاع أسبوعياً على القناة الأولى الرئيسية وقتها.. بل كانت ظاهرة المعارك
مستمرة كدليل على حيوية ووجود هامش للرأي في أوائل عهد المخلوع حسني مبارك، كان عدم منعه إذاعة حلقاته بعد صلاة الجمعة دليلا على عدم
معاداته "الظاهرية" لنظام سلفه الرئيس الراحل أنور السادات. وهكذا اختلف الراحلون واتفق بعضهم مع الشعراوي: زكي
نجيب محمود، توفيق الحكيم، وكثيرون غيرهم مع الشيخ.
كانت في
مصر -وقتها- حياة ما تزال وأنفاس تتردد في الصدور مُقرة
بالديمقراطية وحرية الرأي، وإن كانت خافتة قليلة إلا أنها موجودة، ولم تكن الدولة
بالتبعية مهتمة بالهجوم الحاد على الشعراوي بشكل رسمي معلن لأن هذا في مستقر عُرفها
يساوي تقزيماً لمكانتها حتى في عهد المخلوع حسني مبارك.
تحددت مكانة الشيخ السياسية منذ معرفته بالرئيس السادات منذ الستينيات، وكان
الأخير حينها رئيساً لمجلس الأمة عبر الراحل الدكتور محمود جامع المقرب من كليهما،
وكان السادات يرى في الشيخ عالم الدين المستنير المعارض غير المنتمي، ولذلك فور
توليه الحكم طالبه بمعاودة السفر للسعودية لمحاولة وصل ما انقطع بين مصر وبين
حكامها في عهد الراحل الرئيس جمال عبد الناصر، ثم ما لبث أن استقدمه لوزارة
الأوقاف عام 1976م، وعقب صراع الشيخ مع أحد أساطين المجلس الأعلى للبحوث
الإسلامية، ونجاحه في اقتلاعه، آثر السلامة وقدم وزارته عام 1978م من وزارة ممدوح
سالم، ورفض محاولات التجديد قائلاً المثل المصري الأشهر: "كفاني من الدست
مغرفة"، وتركه السادات مكتفياً بـ"خواطره حول القرآن الكريم" التي
شجعها وقال له: "هي التي ستبقى"!
لم يكن الشعرواي مبرّأ من الخطأ والزلل مثله مثل كل علماء الدين والبشر،
وله آراء مختلف عليها، تراجع عن بعضها ولم يتراجع عن الأخرى (رحمه الله)؛ وكذلك لم
يكن معارضوه يخلون من قول صائب في مواجهته -ولو بصورة جزئية- لأنهم باختصار لم
يكونوا مدفوعين من النظام لافتعال معركة صغرى تلهي الناس عن مأساتهم الحياتية
وتشغلهم بما لا طائل ولا فائدة أو منفعة من ورائه، بل كانت الخلافات حول الشيخ
تثري عقول وأفهام الشباب، وتثير حماسهم لمناقشة وجهتي النظر، وترقب أيهما أصح، فضلاً
عن الخلاف يثبت أن بمصر قامات تختلف وتتفق!
وخلال الأسابيع الماضية تجدد الهجوم على الشيخ الراحل عن دنيانا منذ نحو
ربع قرن، ولم يحترم البعض أن الرجل غائب غياباً أبدياً لا يملك معه خيار الرد من
عدمه، وهو ما نعيبه على كل متصدٍ بالوصف غير الجائز لشخص متوفى ذهب لرحاب الله، وإن
لم يكن هذا يمنع مناقشة وتفنيد الآراء بصورة اختصاصية موضوعية.
لكن الغريب في الأمر دخول وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني، الممثلة لمنصب
رسمي رفيع في الدولة، على الخط، وتصريحها مع بداية أيام العام الحالي في برنامج
فضائي بأن الراحل "عليه تحفظات كثيرة"، من دون أن تحدد ماهيتها
وهل تخص علمه أم شخصه، أو حتى تفسر كيف لقامة راحلة مثل الشيخ أن يكون عليه تحفظات؛
وقد سجل تلفزيون الدولة نفسه معه 1117 حلقة تفسير للقرآن تزيد كل منها عن نصف
الساعة على الأقل، فضلاً عن عشرات اللقاءات، وإن كان الراحل كان يتبرع بأجره عنها دائماً.
أما الجديد الذي أضافته الوزيرة فهو نفيها خبراً كان متداولاً عن تجسيد "المسرح
القومي" لسيرة الشيخ، موضحة أن الأمر لم يكن يزيد في حقيقته عن تقديم لشخصيات
دينية يتم عقد لقاءات حولها في شهر رمضان فحسب؛ على أن تكون للشخصيات أثر إيجابي
تنويري في مكافحة الفكر الإرهابي.
وبعيداً عن جهود الشيخ نفسه في الثمانينيات لمواجهة العنف وبعض جماعاته في
الثمانينيات، فإن السؤال الأبرز هو: ما قيمة اللقاء الذي كان سيعقد وما كان سيضيفه
لمكانة وعلم الشيخ؟ ولماذا التعريض بكلمات برّاقة على غير مقتضاها من مثل
"التنوير" مثلاً؟ والأمر الواضح هو أن الكلمة يتعلق النظام بها للدفاع
عن أشخاص بعينهم لاعتبارات تخص النظام، وإن كان بعضهم راحلين. ثم إن الوزارة نفسها
(الثقافة) هي التي تحدد الأسماء المحتفى بها وهي التي تحذفها، فعلامَ الضجة إذن؟
أو برأي الراحل المخرج صلاح أبو سيف في فيلمه الزوجة الثانية (1967م)، فإن
"الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا!".
بل لماذا التعريض باسم الشعراوي وعلمه وشخصه دون سند واضح من جانب النظام
الحالي؛ إن لم يكن الأمر "اشتغالة رسمية" وصرفا للعقول والأفهام عن واقع
بالغ التأزيم، من ارتفاع مرير للأسعار واندحار للجنيه المصري أمام الدولار على نحو
غير مسبوق تاريخياً، وتحديات "سد النهضة"، ومن قبل انعدام الأمن والحرية
في البلاد، وقهر الملايين باستمرار القمع الأمني الذي يؤدي أحياناً للموت منذ نحو
تسع سنوات ونصف العام؟
ثم إن التعرض الرسمي بعد الإعلامي للشعراوي تأكيد صريح بأن وراء الأشخاص
الذي تعرضوا له مؤخراً أوامر عليا، لم يلبث بعض معطيها إلا أن أسفروا عن وجوههم
علانية لشغل الناس عن بلاويهم وافتعال معارك وهمية، بل المزايدة حتى على الراحلين
وإثبات أن النظام الحالي مفتقد الهوية، لا يحافظ حتى على رمز من رموز نظام
السادات، والذي حافظ عليه حتى نظام المخلوع مبارك، فقد وصلت مصر لطريق مؤلم لا
حفاظ فيه على كرامة أغلب شعبها، أو رفاتهم بعد وفاتهم، أو مجرد احترام الذين
احترمهم حتى نظام المخلوع مبارك، أو حتى مجرد وجود إنجاز للنظام!
ورب ضارة نافعة عموماً، فقد أفاد مدير المعارض في أخبار اليوم تامر عواد لموقع
محلي الأسبوع الماضي، أن كتب الشيخ
هي الأكثر مبيعاً في معرض القاهرة الدولي للكتاب متفوقة على مبيعات الأعوام الماضية بكثير. وهكذا يأبى
الله أن يتم طرفاً من نوره وأصحاب هديه في زماننا، وإن كره الكثيرون الذين لا
يستحقون حتى مجرد التذكر، وهكذا لا يضير النظام المصري إلا نفسه حتى بسب الراحلين
فيزيدهم تألقاً!