هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مرت دعوات التظاهر في تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري ضد
سياسات النظام في مصر بهدوء، ليخيّل للمرء أن الدعوة كانت إلى الامتناع عن النزول
للشارع. وهدفت تلك الدعوة إلى إبراز الغضب ضد هذه السياسات وتسليط الضوء عليها،
خاصة فيما يتعلق بالملف الحقوقي واعتبارها فرصة متاحة لإثارة ملف سجناء الرأي
وإحراج النظام أمام المشاركين في القمة، وفي نفس الوقت استغلال انعقاد قمة المناخ.
وهناك من يرى أن هناك فارقاً في هذه الدعوة، حيث إن
الوضع الداخلي كان مهيأ لاحتجاجات شعبية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وأن هناك
حدودا لمنع هذه المظاهرات خاصة إذا اتصفت بالاتساع والتنوع الجغرافي، وحظيت بتضامن
المجتمع المدني الغربي المشارك في قمة المناخ، مع استغلال وجود الإعلام الدولي
لتغطية هذه المناسبة، والذي سيضع تصرفات الإدارة المصرية تحت الميكروسكوب. ومع ذلك
لم تجد الدعوة تأييدا بسبب المخاوف من ردود الفعل الأمنية التي يمكن أن تحدث ضد
المتظاهرين.
وهذ يرجع إلى عدد من الأسباب؛ أهمها:
- صدور الدعوة من بعض حسابات يوتيوب من خارج مصر لشخصيات
لم تكن محسوبة على المعارضة، وكان بعضها مقربا من نظام مبارك والنظام الحالي، بالإضافة
إلى بعض الضباط السابقين الذين سافروا للخارج وأصبحوا معارضين لسياسات النظام.
وقد أيد كثير من المعارضين في الخارج هذه الدعوة وعملوا
على دعمها إعلاميا بكشف آثار السياسات الاقتصادية وانتهاكات حقوق الإنسان، وقامت
قنوات مقربة من جماعة الإخوان بدعم هذه الدعوة، كما حظيت بتأييد كثير من المصريين في
الداخل من خلال إرسالهم فيديوهات داعمة لها.
وركز جزء من أحاديث مطلقي تلك الدعوة على وجود تأييد
داخل أجنحة النظام لهذه المظاهرات وأنه لن يتم التعرض لها في حال وجود كثافة من
المشاركين. كما تحدث بعضهم عن معلومات مسربة من الداخل بعدم مقاومة التظاهرات بهدف
تشجيع المواطنين.
- لم تظهر القوى السياسية في الداخل تأييدا لهذه
الدعوات، إما لمخاوف من رد انتقامي من جانب النظام أو اتقاء لشره، أو لعدم الثقة
في مطلقي هذه الدعوات، أو رهاناً على الحوار الوطني الذي دخل في حالة تجميد متعمدة
بعد استنفاد أغراضه.
- بقراءة التجربة المصرية في التظاهر نجد أنها اقتصرت
على أشكال محدودة، تبدأ بالوقفات الاحتجاجية الصغيرة مرورا بالإضراب عن العمل أو
الطعام أو الاعتصام في أماكن العمل أو الميادين العامة أو المسيرات المتحركة، سواء
من جانب القطاعات العمالية أو المواطنين والمهنيين المحتجين، بينما تخلو هذه
الاحتجاجات من كثير من مظاهر المقاومة المدنية الأخرى التي أبدعتها أشكال النضال
الجماهيري، مثل الامتناع عن دفع الضرائب أو الرسوم الحكومية، أو إغلاق المحال، أو
الامتناع عن الذهاب للمدارس أو الانقطاع عن العمل، أو الوقوف أمام المنازل، أو
تعليق اللافتات في بلكونات المواطنين أو وضع شارات مميزة. وقد حاولت حركة شباب 6
أبريل اقتباس بعض هذه الأشكال في الفترة من عام 2005 إلى 2011.
وقد أدى التركيز على أشكال بعينها إلى ضعف أشكال الحراك
الجماهيري الأخرى بشكل عام خاصة في ضوء تقييد المنظومة التشريعية لكافة أشكال
التظاهر، بالإضافة إلى محاولات التشويه الإعلامي الدائم لأي حراك شعبي وتحميله
سوءات الوضع الراهن.
ويذكر أن آخر مظاهرات حاشدة كانت في نيسان/ أبريل 2016
والخاصة بجزيرتي تيران وصنافير، وبعدها انطلقت كثير من دعوات التظاهر الأخرى منها
ما سمي بثورة الغلابة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، ثم احتجاجات أيلول/ سبتمبر
2019 و2020 التي تميزت بالمظاهرات الصغيرة والتي استجاب لها البعض في القاهرة
ومحافظات الصعيد، وقُبض على آلاف المواطنين آنذاك وظلوا سنوات وراء السجون، إلى
جانب دعوات من القنوات المعارضة في الخارج بإطلاق صفارات من الشرفات أو الضغط على
كلاكس السيارات.
ويذكر أن هناك مستويين من التظاهر، الأول يحمل تناقضاً
أساسياً وجوهرياً مع النظام، برفض النظام وسياساته بشكل مطلق والدعوة لاستبداله
وحصار مؤسساته وإجباره على الرحيل، كما حدث في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، والتي
اقتصرت في البداية على التعبير عن الغضب من تصرفات أجهزة الأمن ضد المواطنين ثم
رفعت مطالبها برحيل النظام، وهو قريب مما حدث في 30 حزيران/ يونيو 2013 التي رفعت
مطلبها بانتخابات مبكرة ثم تحولت إلى إقصاء نظام الإخوان حيث دعمتها بقوة مؤسسات
الدولة العميقة.
المستوى الثاني من التظاهر يكون ثانويا مع السلطة
والخلاف فيه يكون على سياسات جزئية، فيكون الاحتجاج عليها بهدف تغييرها، وينتهي
بالوصول لتوافق وتنازلات من جانب السلطة. ويساعد على ذلك وجود مؤسسات أخرى تشريعية
وقضائية مستقلة وإعلام حر، فإذا غابت هذه المؤسسات تحول هذا التناقض إلى صراع صفري
بين الإرادة العامة واستبداد الدولة.
كثير من التظاهرات المصرية كانت من النوع الثاني في 1968
و1972 ثم انتفاضة 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977، ثم مظاهرات التضامن مع العراق
في 2003 والتي كانت بروفة لمظاهرات 25 يناير، والتي واجهت قمعا أمنيا مفرطا، مرورا
بمظاهرات اللجنة الشعبية لدعم الشعب الفلسطيني، ثم حركة كفاية وأخواتها بدءا من
عام 2005. وبعض مظاهرات كفاية تنوعت رد فعل السلطة في مواجهتها بين القمع الأمني
والحصار أو المراقبة من بعد.
- الأمر المهم أن أغلب هذه التظاهرات لم تنجح في تحقيق
بعض أهدافها إلا إذا كان في مقدمتها طرفان أساسيان هما الطلاب والعمال، الذين كان
عليهم الرهان في أية احتجاجات قوية ومؤثرة وطويلة المدى كما حدث في 2011، ومن
بعدهم القوى الفلاحية.
وما لم يستعد الطرفان قوتهم الجماهيرية والتنظيمية بدعم
الأحزاب والقوى السياسية لهم في الجامعات، والمواقع العمالية في ظل الأوضاع
الاقتصادية الراهنة، ومساندة باقي القطاعات الجماهيرية الغاضبة جراء انتهاك حقوقها
في السكن والصحة والتعليم والعمل، وإنشاء حركات اجتماعية تستطيع الضغط ووضع بدائل،
وتغيير السياسات الحالية واستبدالها بسياسات رشيدة تنحاز للفقراء وأبناء الطبقة
المتوسطة. وما لم يحدث هذا لن تنجح هذه التحركات في الصمود والاستمرار.
لكن جاءت نقطة الضعف الرئيسة في هذه الدعوة في غياب القوى
السياسية في الداخل؛ التي تحمل لواءها وتنظم فعالياتها وانطلاقاتها، وترسم حدودها،
وتضع وثيقة توافق سياسي تحدد معالم مرحلة ما بعد التغيير.
فهل ستتلافى الدعوات المقبلة تلك السلبيات ونقاط الضعف،
حتى تستجيب لها قطاعات شعبية من المصريين؟ وفي النهاية سيستمر الغضب قائما في النفوس
ولن ينتهي إلا بحدوث تغيير جذري حقيقي.