هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بشكل مفاجئ تدفقت على مصر خلال الأسبوع الماضي زكائب أموال خليجية، بلغت حصيلتها 12 مليار دولار (5 مليارات من قطر، و5 مليارات من السعودية ومليارين من الإمارات)، وحسب تقرير بنك بي إن بي باريبا الفرنسي، فإن هناك "فرصة معقولة" في أن تتلقى مصر 3 مليارات دولار من صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وملياري دولار من الصندوق السيادي الكويتي خلال الأسابيع المقبلة، ليرتفع الرقم الإجمالي إلى 17 مليار دولار، ويضاف إلى ما سبق قرض ياباني بقيمة 500 مليون دولار، وهو ما يوازي الفجوة التمويلية التي تعانيها مصر وقدرها 17.5 مليار دولار للعام المالي الحالي.
هذه التدفقات المالية الخليجية المفاجئة جاءت بناء على استغاثة مصرية عاجلة، لتتمكن القاهرة من سد الفجوة التمويلية، ولتتمكن من المضي قدما في مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد بين 8 و10 مليارات دولار مقابل تطبيق برنامج اقتصادي يتضمن المزيد من الإجراءات التقشفية، والمزيد من تعويم الجنيه، وزيادة أسعار السلع الرئيسية.
من الطبيعي أن يبتهج النظام المصري بهذه التدفقات التي كانت طوق نجاة مؤقت له، لكن ليس من الطبيعي أن يبتهج الشعب لها، ذلك أنها تمثل طوقا جديدا في عنقه، بل في أعناق أجيال قادمة، لسداد أقساطها وفوائدها، وهو مالا يبدو ممكنا إلا ببيع المزيد من الأصول العامة المملوكة للشعب نفسه، وهو ما جري ولا يزال يجري فعليا مثل بيع شركة الحديد والصلب، وشركة أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية، ومصر لإنتاج الأسمدة "موبكو"، (أهم شركتين في قطاع الأسمدة)، والإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع، وحصص من البنك التجاري الدولي وبعض شركاته للإمارات، كما يتم تعديل المزيد من القوانين للسماح ببيع ما كان محرما بيعه من قبل، مثل أراضي سيناء، التي استثنى تعديل تشريعي مؤخرا بعض مناطقها من قوانين سابقة وضعت قيودا على الاستثمار الأجنبي فيها.
القروض الجديدة كما القديمة لن تجدي نفعا للنظام المصري، وتبدو أموالا مسرطنة، أي قاتلة، مثل المبيدات المسرطنة التي تسببت في أضرار بالغة بالزراعة المصرية في عهد مبارك، وحوكم بسببها عدد من قيادات وزارة الزراعة، وهي أموال ليست ذات جدوى لاقتصاد منهك في مشروعات "فنكوشية"،
التعديل التشريعي الجديد الخاص باستثناء بعض مناطق سيناء من قيود الاستثمار الأجنبي قد يكون تمهيدا للتنازل عن مساحات أوسع من سيناء لتنفيذ الخطط القديمة الجديدة حول مشروع الوطن البديل للفلسطينيين ضمن صفقة القرن التي فشل تنفيذها في عهد ترامب، لكن تحركات سياسية أخيرة منها لقاء النقب الذي جمع عددا من وزراء الخارجية العرب بينهم وزير الخارجية المصري مع وزيري الخارجية الأمريكي والإسرائيلي قد تكون تمهيدا لإحياء ذلك المشروع وبدء تنفيذه، وقد تكون تلك المساحات الواسعة من أراضي سيناء مقابل ثمن مالي كبير تدفعه الدول الخليجية لإنقاذ شريكها في الصفقة عبد الفتاح السيسي، وليتم تبرير الأمر في النهاية للشعب المصري بأنه حل لمشكلات الاقتصاد حتى يصبح قادرا على تحسين حياة الناس.
القروض الجديدة كما القديمة لن تجدي نفعا للنظام المصري، وتبدو أموالا مسرطنة، أي قاتلة، مثل المبيدات المسرطنة التي تسببت في أضرار بالغة بالزراعة المصرية في عهد مبارك، وحوكم بسببها عدد من قيادات وزارة الزراعة، وهي أموال ليست ذات جدوى لاقتصاد منهك في مشروعات "فنكوشية"، ومهما استقبل من مليارات القروش فإنه يبتلعها دون أن يرتوي منها، مثل قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ.
الاقتراض الخارجي أو الداخلي ليس عيبا بالمعايير الاقتصادية لو كان مخصصا للإنفاق على مشاريع ضرورية أو إنتاجية تدر لاحقا عوائد قادرة على سد أقساط وفوائد تلك الديون، أما في مصر فإن الاقتراض تم لمشروعات عديمة الجدوى الاقتصادية، جرى ضخ المليارات فيها فقط لرفع الروح المعنوية للشعب مثل تفريعة قناة السويس الجديدة (10 مليارات دولارات)، ومثل العاصمة الإدارية الجديدة التي تمثل عنوانا لسرطان المال، حيث تم ضخ عشرات المليارات، ولا تزال الإنشاءات تنتظر عشرات بل مئات المليارات الأخرى، تحقيقا لحلم حاكم يرى أن مثل تلك الإنشاءات الخراسانية هي التي توفر الشرعية له حتى لو كانت دون فائدة حقيقية للاقتصاد أو دون فائدة للمواطنين.
حين قام السيسي بانقلابه في يوليو 2013 كانت ديون مصر الخارجية 43 مليار دولار لكنها ارتفعت في عهده إلى 140 مليار دولار بنهاية 2021 قبل أن تضاف إليها القروض الجديدة ( الوديعة السعودية ـ القرض الياباني ـ القرض المتوقع من صندوق النقد) بما يعني أن كل مواطن مصري حتى لو كان طفلا حديث الولادة هو مدين بأكثر من ألف وخمسمائة دولار، أي أن أسرة مكونة من سبعة أفراد مدينة بأكثر من عشرة ألاف دولار، وهي لم تستفد شيئا يذكر من هذه القروض، التي ستظل دينا في رقاب الأجيال القادمة كما ذكرنا، وقد تتسبب في احتلال أجنبي كما حدث عندما عجزت مصر عن سداد ديونها الخارجية التي اقترضها الخديوي إسماعيل وأنفقها على مشاريع مظهرية مثل حفل افتتاح قناة السويس، أو بناء قصور ملكية، أو شراء أراضي باسمه وعائلته (استلم حكم مصر وكانت ديونها 11 مليون جنيه إسترليني وترك الحكم وكانت ديونها 127 مليون إسترليني)، وقد رهن الخديوي أراضي مصرية مقابل تلك الديون، وتعرض لابتزاز الدائنين الذين شكلوا مجلسا لمراقبة المالية المصرية، لينتهوا أخيرا باحتلال مصر لمدة سبعين عاما.. والتاريخ يكرر نفسه.