أصاب العرب في أقطارهم من الدكتاتورية قرف وملل وحزن عميم، وأصاب
التونسيين في قطرهم ما أصاب بقية العرب، فالديمقراطية أيضا تدفع إلى الملل وطلب الهجرة وأرجو ألاّ يتهمنا أحد بالبطر أو نكران النعمة الإلهية. الحقيقة أن هناك آثارا للديمقراطية لا تختلف كثيرا عن آثار الدكتاتورية، حيث يقفز التافه والجاهل إلى السلطة ويحكمان في تونس.. قفز الجهل والحمق وفساد الضمير إلى الحكم دون دبابة ودفعوا الناس إلى القرف، ما جعل الناس يحلمون بالهجرة ونسيان أوطانهم.
من اشترى اللقاحات للشعب؟
أبدأ من أشد الوقائع سخافة، وصول شحنة لقاحات أولى من روسيا إلى تونس. وقبل أن نعرف من اقتناها بعد طول تأخير صدر بيان من الرئاسة يبارك فعل الرئيس الذي اقتنى اللقاحات، لكن قبل أن يستقر البيان على الأرض تبين للناس أن رجل أعمال تونسيا بنى علاقة صداقة مع حكام روسيا فتوسل بصداقته للحصول على اللقاحات لبلاده ونسق مع الحكومة لنقل واستقبال الشحنة. وكان كذلك، فمن أين دخل الرئيس وفريقه؟
سأترك لفريق الرئيس حرية الادعاء، لكن عليهم أن يتذكروا أن حديث ما قبل الشحنة كان أن تزويد البلد باللقاحات هو من صلب عمل الحكومة، أي السلطة التنفيذية المباشرة، وتدبير أمور الصحة لا يدخل في مجال عمل الرئيس. وهكذا يصير الادعاء بجلب التلقيح مناقضا للحديث الذي سبقه.
أمام هذا المشهد تذكر كثير ممن مارس مهنة التعليم مثلي ذلك التلميذ الدعي الذي ينسخ من ورقة جليسه محاولا إثبات كفاءة ونبوغ، لكن ماذا لو نقله المعلم من مقعده إلى آخر الفصل؟
من خارج هذا المشهد لا يمكن إلا أن نرى التفاهة تحكمنا ونعجز عن نقضها بحكم قوانين
الديمقراطية، فنحن نحرم الانقلاب على الرئيس من أجل سلامة المؤسسات ونحن نشاهد المؤسسات وقد أصيبت في عقلها وفي قلبها، ولكننا نصر على بقائها إصرار ضحايا الانقلابات على سلامة الدولة وبقائها (لو كان المقام مقام أدب ورواية لقلنا كلنا مداخلة دون فقه اللحية).
هل الديمقراطية جبانة؟
تبدو كذلك، فالصبر عليها مكلف جدا. في مشهد اقتحام حزب الفاشية لمقر فرع الاتحاد العام للعلماء المسلمين بتونس تظهر عيوب الديمقراطية إذا لم تتخذ أنيابا. لقد تم الادعاء أمام القضاء بأن الاتحاد منظمة إرهابية، لكن القضاء حكم بغير ذلك وسمح للجمعية بمواصلة عملها القانوني، فتجاوزت الفاشية القضاء واقتحمت المقر وعبثت بمحتوياته ولم تتصد لها الحكومة.
الحكومة تواصل نمط التفكير العاجز الذي اتبعه من قبلها، حتى لا تقارن حكومات ما بعد الثورة بمثل حكومات ابن علي القمعية. وهذا خطأ قاتل، فقد ألقت الحكومات أسلحتها طوعا أمام الفوضى وسمحت لأعداء الحرية بالعبث بالحرية نفسها. وآخر العابثين حزب الفاشية التي تستفز الحكومة لتنال وضع الضحية وتعيش منه، وهذا يسبب خوفا للحكومة وهو خوف غير مبرر؛ لأن محاولة ربح الناس بالديمقراطية يخسرها أناس آخرون يرفضون الجبن والتردد، ويخسر البلد صبره ويحمله إلى مسارب التخريب والعطالة السياسية.
للديمقراطية أنياب.. قال ذلك عتاة الديمقراطيين في أعتى التجارب. لكن الحالة التونسية تكشف أن حكومات الثورة ولدت بلا أنياب، ولم تبلغ مبالغ النضج لتنبت لها أنيابها وتمزق أعداء الحرية، لذلك يدفع أعداء الحرية والثورة الأمر إلى حافة الهاوية مستغلين الحلم الذي تبديه الحكومات.
من مثل هذا الحلم أوتيت الحرية في تجارب أخرى وستؤتى في تونس، لكن عندما يتم التفطن إلى خطر السكوت على الفاشية سيكون الوقت قد فات.
ألم يفت بعد؟ لعلنا نتعزى، فلقاء الرئيس الذي لا يحكم ولا يسمح لأحد بالحكم موضوعيا؛ مع الفاشية التي تمنع كل حركة وتخرب كل مؤسسة يدفعنا للتساؤل: كيف يمكننا بعد أن نولد أملا في ديمقراطية مخدوعة ومغدورة؟ لكن لماذا وصلنا إلى هذه الحالة من القرف المستسلم؟
هل يؤمن التونسيون بالديمقراطية فعلا؟
سؤال كثر طرحه هذه الأيام في تونس، فنحن نكتشف أن رموز النخبة المثقفة والحداثية انتقلت إلى صف الفاشية وتطلب منها الحفاظ على مشروع التحديث البورقيبي. وهذا وضع مثير للسخرية ولكنه أيضا مثير للقرف. لم نكن نتخيل أيام حديث هذه النخب عن الديمقراطية وهي تحت الدكتاتورية؛ أن حديثها مكذوب وخطابها منافق ونواياها أصغر من قيادة شعب نحو الديمقراطية، فهل نتفاءل بانكشاف طبيعة هذه النخبة ونقول هذا من بركات الصبر، أم نقدر خسائرنا في طريق لم تبدُ لنا عليه علامات الوصول لنطمئن؟
يبدو أن اختلاق الأمل هو جزء من الوهم لكي نجد سببا لتأجيل مواجهة مخربي الحريات وادعاء الديمقراطية ومنافقي الشعب. أليست هذه مشاعر من يعيش تحت دكتاتورية عسكرية ومواقفه المستسلمة؟
أصدقاءنا العرب احسدونا لنشعر بالنعم، فكل ذي نعمة محسود. أنتم تقتصدون الدم الغالي ليقينكم بأن العسكر لن يقتصده ولن يدخركم. أنتم خائفون على الدولة فلا تواجهوا العسكر. نحن أيضا رغم الحرية نقتصد الدم ونتحمل الرداءة من أجل ذلك، ألسنا واحدا رغم اختلاف شكل الحكم؟
يوجد خلل ما بل خلل نراه، ولا يجب أن نتخفى خلف اللغة الزلقة. من نزع أنياب الديمقراطية جرأ عليها كلاب الفاشية، والثمن القادم ثقيل جدا.