هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "نيويوركر" الأمريكية مقال رأي للكاتبة روزينا علي تحدثت فيه عن شعر جلال الدين الرومي الذي طرأت عليه الكثير من التغييرات عند ترجمته إلى لغات أخرى، بما في ذلك تجريده من دلالاته الإسلامية.
وقالت الكاتبة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إنه قبل سنوات، عندما كان كريس مارتن مغني فرقة "كولدبلاي" يشعر بالإحباط وهو في طور طلاقه من الممثلة غوينيث بالترو، أهداه أحد أصدقائه كتابًا لرفع معنوياته. كان ذلك الكتاب مجموعة من الأعمال الشعرية للشاعر الفارسي جلال الدين الرومي الذي عاش في القرن الثالث عشر، مترجمة من قبل كولمان باركس.
قال مارتن لاحقًا في مقابلة له إن أشعار جلال الدين الرومي غيرت حياته نوعًا ما، وقد تضمنت أحدث ألبومات "كولدبلاي" مقطعا من أشعاره من إلقاء باركس: "هذا الإنسان بيت ضيافة/ كل صباح يصله زائر جديد/ فرحة، حزن، دناءة/ إنها لحظات وعي خاطفة/ تأتي كزائر غير متوقع".
وألهمت أشعار جلال الدين الرومي مشاهير آخرين، مثل مادونا وتيلدا سوينتون في رحلتهم الروحية، وبعضهم ضمّنَ بالفعل أعمالًا لهذا الشاعر ضمن إنتاجاته. تُنشر كلمات جلال الدين الرومي يوميًا على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف تحفيز من يقرأها على الأغلب. ومن بين الأقوال المأثورة المنسوبة له: "إذا تملكك غضب من صغائر الأمور، فكيف سيشتد عودك؟".
وذكرت الكاتبة أن ترجمات باركس، على وجه الخصوص، يتم تداولها على نطاق واسع على الإنترنت وتنتشر على أرفف المكتبات الأمريكية وتؤدى مقاطع منها في حفلات الزفاف. وتعتبر أعمال جلال الدين الرومي المترجمة الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة. ويشار إليه عادة على أنه صوفي، لكن الغريب في الأمر أنه على الرغم من أنه كان عالما طوال حياته في القرآن والإسلام، إلا أنه لم يوصف في كثير من الأحيان بأنه مسلم.
وتأتي الكلمات التي ذكرها مارتن في ألبومه من قصيدة ملحمة "مثنوي" لجلال الدين الرومي، وهو ديوان من ستة كتب ألفه في نهاية حياته. ويتضمن الديوان خمسين ألف سطر معظمها بالفارسية، لكنها مليئة بالمقتطفات العربية من النصوص الإسلامية المقدسة. وفي كثير من الأحيان، يشير جلال الدين الرومي إلى القصص القرآني، وما يحمله في طياته من دروس أخلاقية.
وقالت الكاتبة إن فاطمة كيشافارز، أستاذة الدراسات الفارسية في جامعة ماريلاند، أخبرتها بأن جلال الدين الرومي ربما يكون قد حفظ القرآن كاملا ما يفسر اقتباسه منه بكثرة. وقد وصف جلال الدين الرومي نفسه في ديوان "المثنوي" بأنه "جذور جذور جذور الدين" - أي الإسلام - "ومفسر القرآن". ومع ذلك، فإنه يوجد أثر ضئيل للدلالات الإسلامية في ترجمات أعماله التي تُباع بكثرة في الولايات المتحدة.
ونقلت الكاتبة عن جويد مجاددي، عالم الصوفية المبكرة في روتجرز، أن "أعمال جلال الدين الرومي المترجمة باللغة الإنجليزية تلقى استحسانا كبيرا، ولكن الثمن الذي دفع لقاء ذلك هو اقتطاع السياق الثقافي والديني منها".
ولد جلال الدين الرومي في أوائل القرن الثالث عشر، في ما يعرف الآن بأفغانستان. واستقر لاحقًا في قونيا - في تركيا حاليا - مع أسرته. وكان والده واعظًا وعالمًا دينيًا، وعُرف بميله إلى الصوفية. وواصل جلال الدين الرومي تعليمه الديني في سوريا، حيث درس تعاليم الإسلام السني وعاد لاحقًا إلى قونيا ليصبح مدرسا لعلوم الدين. وفي قونية، التقى جلال الدين الرومي بأحد كبار الرحالة، وهو شمس التبريزي، الذي أصبح معلمه الروحي فيما بعد.
ولطالما كانت طبيعة الصداقة الحميمة التي جمعت بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي محل جدل، لكن يتفق الجميع على أنه كان لشمس تأثير دائم على ممارسات الرومي الدينية وشعره. وفي سيرة ذاتية جديدة لجلال الدين الرومي بعنوان "سر الرومي"، يصف براد غوتش كيف دفع التبريزي تلميذه الرومي للتشكيك في تعليمه الكتابي ومناقشة المقاطع القرآنية معه والتأكيد على فكرة الإخلاص. كان الرومي يمزج بين الحب البديهي لله الذي وجده في الصوفية مع تعاليم الإسلام السني والفكر الصوفي الذي تعلمه من شمس التبريزي.
ونقلت الكاتبة عن فاطمة كيشافارز أن هذا النسيج غير العادي من التأثيرات هو الذي ميز جلال الدين الرومي عن العديد من معاصريه. وقد تمكن بفضل هذه الميزة من اكتساب أتباع كثر له في قونية، من الصوفيين والحرفيين المسلمين وعلماء الدين والمسيحيين واليهود وكذلك الحكام السلاجقة السنة.
وفي كتابه "سر الرومي"، يسرد غوتش الأحداث السياسية والتعليم الديني اللذين أثرا على جلال الدين الرومي. وراوح غوتش في كتابه بين التركيز على هذه الحقائق وكشف الرغبة في استنتاج أن جلال الدين الرومي، بمعنى ما، ارتقى عن خلفيته ليعتنق "دين الحب" الذي يسمو عن كل المعتقدات المنظمة في ذلك الزمن.
وما يمكن أن يضيع في مثل هذه القراءات هو الطريقة التي شكلت بها تعاليم جلال الدين الرومي الإسلامية أفكاره. وأشار مجاددي إلى أن القرآن يعترف بالمسيحيين واليهود على أنهم "أهل الكتاب"، ما يوفر نقطة انطلاق نحو العالمية، مؤكدا أن "العالمية التي يقدسها الكثيرون في جلال الدين الرومي اليوم مستمدة من سياقه الإسلامي".
وأوضحت الكاتبة أن عملية محو الدلالات الإسلامية من ترجمات أشعار جلال الدين الرومي بدأت قبل حادثة فرقة كولدبلاي بكثير. ويقول أوميد صافي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة ديوك، إن العصر الفيكتوري شهد بداية فصل قراء الغرب للشعر الصوفي عن جذوره الإسلامية.
في تلك الحقبة، لم يستطع المترجمون وعلماء الدين التوفيق بين أفكارهم حول ما سموه "ديانة الصحراء" برموزها الأخلاقية والدينية غير المعتادة، وأعمال شعراء مثل جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي. وقد توصلوا في النهاية إلى أن "هؤلاء الأشخاص ليسوا متصوفين بفضل الإسلام بل على الرغم منه"، على حد تعبير صافي.
وشهدت تلك الأيام تعريض المسلمين بالتحديد للتمييز القانوني - ومن أمثلة ذلك، قانون 1790 الذي قلص عدد المسلمين الذين يمكنهم دخول الولايات المتحدة، وذلك بسبب ما وصفته المحكمة العليا الأمريكية بأنه "العداء الشديد للمسلمين تجاه جميع الطوائف الأخرى، وخاصة المسيحيين".
وفي سنة 1898، كتب السير جيمس ريدهاوس في مقدمة ترجمته لكتاب "مثنوية المعاني": "تخاطب المثنوية أولئك الذين يغادرون العالم المادي، ويحاولون أن يعرفوا الخالق، ويكونوا مع الخالق، ويكرسون أنفسهم للتأمل الروحي". وبالنسبة للغرب، كان الرومي منفصلا عن الإسلام.
وفي القرن العشرين، عزز عدد من المترجمين البارزين حضور جلال الدين الرومي في المرجعية الأدبية الغربية، لكن باركس هو من وسّع دائرة قراء الرومي. لم يكن باركس مترجمًا بقدر ما هو مفسر، وذلك لعدم إتقانه اللغة الفارسية، وقد اعتمد على ترجمات القرن التاسع عشر لتحويل أعماله إلى شعر أمريكي ذو نهج مميز.
وولد باركس سنة 1937 ونشأ في ولاية تينيسي. وحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي ونشر كتابه الشعري الأول "العصير" في سنة 1971. وسمع باركس اسم جلال الدين الرومي لأول مرة عندما سلمه شاعر آخر يدعى روبرت بلاي نسخة من ترجمات إيه جاي أربيري لأشعار الرومي، وأخبره أنه لا بد من "إطلاق سراحها من أقفاصها" - أي وضعها في أبيات شعرية حرة ذات نسق أمريكي.
ولم يسبق لباركس أن درس الأدب الإسلامي قط. لكنه قال إنه حلم ذات يوم بأنه كان نائمًا على جرف بالقرب من نهر جاري، وظهر له شخص غريب في هالة ضوء وقال له "أحبك". وبعد مرور سنة، التقى باركس بذلك الرجل لأول مرة في إحدى الطرق الصوفية في فيلادلفيا، وقد كان شيخهم. ومنذ ذلك الحين، بدأ باركس يخصص فترات لدراسة وإعادة صياغة الترجمات الفيكتورية لجلال الدين الرومي، ونشر أكثر من عشر ترجمات.
وصف باركس شعر الرومي بأنه "لغز فتح الفؤاد"، وهو أمر "لا يمكنك التلفظ به بأي لغة". ومن أجل الوصول إلى ما يستحيل وصفه لغويا، أخذ باركس حريته بالتصرف في أعمال الرومي، حيث قلل من الإشارات إلى الإسلام في بعضها.
فعلى سبيل المثال، يترجم أربيري أحد أبيات القصيدة الشهيرة "مثل هذا" حرفيا على النحو التالي: "من يسألك عن الحور العين، أظهر وجهك وقل له مثل هذا". في المقابل، يتجنب باركس الترجمة الحرفية لكلمة "الحور العين"، حيث ترجمها: "إذا سألك أحدهم كيف سيبدو الرضا التام لجميع رغباتنا الجسدية، ارفع وجهك وقل، مثل هذا". ليختفي بذلك السياق الديني. وفي موضع آخر من نفس القصيدة، يحتفظ باركس بالإشارات إلى الأنبياء عيسى ويوسف.
وقال صافي إثر مناقشته "لترجمات" العصر الحديث: "أرى نوعا من 'الاستعمار الروحي' وتجاوز ومحو واحتلال للمشهد الروحي الذي عاشه وتنفسه واستوعبه المسلمون من البوسنة وإسطنبول إلى قونية، ومن إيران إلى وسط وجنوب آسيا ".
إن استخلاص الروحانية من السياق الديني له أصداء عميقة. ويتم تشخيص الإسلام بانتظام على أنه "سرطان"، بما في ذلك من قبل الجنرال مايكل فلين، الذي اختاره الرئيس المنتخب دونالد ترامب لمنصب مستشار الأمن القومي، وحتى اليوم، يشير صانعو السياسة إلى أن الجماعات غير الغربية وغير البيضاء لم تساهم في الحضارة.
من جانبه، يرى باركس أن "الدين ثانوي بالنسبة لجوهر شعر جلال الدين الرومي، وهو نقطة خلاف بالنسبة للعالم. لدي قناعاتي ولك قناعاتك، هذا مجرد سخافة. نحن جميعا في هذا معا وأنا أحاول أن أفتح قلبي، وشعر الرومي يساعد في ذلك". يمكن للمرء أن يكتشف في هذه الفلسفة شيئا من نهج الرومي الخاص للشعر، إذ غالبا ما كان يعدل نصوصًا من القرآن بحيث تتلاءم مع القافية الغنائية ومقياس الشعر الفارسي.
في حين أن قراء الرومي الفارسيين سيدركون هذا التكتيك، فإن معظم القراء الأمريكيين ليسوا على دراية بالمخطط الإسلامي. وقد قارن صافي بين قراءة أعمال الرومي من دون إطلاع على القرآن وقراءة ميلتون من دون أدى معرفة بالكتاب المقدس، وخلص إلى أنه حتى لو كان الرومي بدعيا، فمن المهم أن ندرك أنه كان كذلك في سياق إسلامي - وأن الثقافة الإسلامية، منذ قرون، كان لديها مجال لمثل هذه البدعة. ولا تقتصر أعمال الرومي على الجانب الديني، فهي تمثل الدينامية التاريخية في الدراسات الإسلامية.
وذكرت الكاتبة أن جلال الدين الرومي استخدم القرآن والأحاديث والدين بطريقة استكشافية، متحديا في أغلب الأوقات القراءات التقليدية. ومن بين أشهر التأويلات التي قدمها باركس: "بعيدا عن الصواب والخطأ، هناك مجال/ سأقابلك هناك". ولم تذكر النسخة الأصلية أي "صواب" أو "خطأ"، وإنما كانت الكلمات التي استخدمها الرومي تنحصر في الإيمان والكفر.
تخيل إذن عالما مسلما يقول إن أساس الإيمان لا يكمن في القانون الديني بل في بيئة سامية من الرحمة والمحبة. إن ما قد نعتبره راديكاليا اليوم هو تفسير طرحه جلال الدين الرومي منذ أكثر من 700 سنة. ولم تكن مثل هذه القراءات فريدة من نوعها آنذاك. كانت أعماله تعكس علاقة دفع وجذب واسعة النطاق بين الروحانية الدينية والإيمان المؤسسي، التي تناولها بذكاء لا يضاهى.
وقال صافي: "من الثابت تاريخيا أنه لم يعمل أي نص على تشكيل خيال المسلمين ـ باستثناء القرآن ـ مثلما فعل تأثير أشعار الرومي وحافظ". ولهذا السبب، ظلت الكتابات الضخمة من تأليف جلال الدين الرومي، في وقت كان فيه على الناقلين نسخ الكتابات يدويا، صامدة.
ونقلت الكاتبة عن الكاتب والمترجم سينان أنتون قوله إن "اللغة ليست مجرد وسيلة للاتصال، فهي عبارة عن مستودع من الذاكرة والتقاليد والتراث". وباعتبارهم جسرا بين ثقافتين، يتولى المترجمون مشروعا سياسيا متأصلا. يتعين عليهم أن يتفهموا على سبيل المثال كيفية جعل شاعر فارسي من القرن الثالث عشر مفهوما بالنسبة لجمهور أمريكي معاصر. وهم يتحملون أيضا مسؤولية البقاء أوفياء للعمل الأصلي ــ وهو العمل الذي من شأنه أن يساعد القراء، في حالة شعر الرومي، على إدراك حقيقة مفادها أن أستاذ الشريعة قادر أيضا على كتابة بعض أشعار الحب المقروءة على نطاق واسع في العالم.
وذكرت الكاتبة أن مجاددي الآن يعمل على مشروع يمتد لسنوات لترجمة جميع الكتب الستة "للمثنوي"؛ حيث نشر ثلاثة منها، بينما سيصدر الرابع هذا الربيع. وهو وفي في ترجماته للنصوص الإسلامية والقرآنية إلى النص الأصلي، وذلك باستخدام الخط المائل للإشارة إلى الأوقات التي يتحول فيها الرومي إلى استخدام اللغة العربية. كما أن كتبه مليئة بالحواشي، وتتطلب قراءة أعماله بعض الجهد، وربما الرغبة في رؤية ما وراء التصورات المسبقة للفرد. ومع ذلك، فإن الهدف من الترجمة هو فهم الطرف الأجنبي الآخر. كما قالت كيشافارز إن الترجمة هي تذكير بأن "كل شيء له شكل، كل شيء له ثقافة وتاريخ. ويمكن للمسلم أن يكون كذلك أيضا".