تمتلك
السلطة في معناها الواسع على
المستوى السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ قدرة كبيرة ومنظّمة توظّفها للهيمنة على
فضاء التواصل ولمواجهة ردّات الفعل
الناقدة لها والساعية لإظهار هشاشة مقولاتها وحججها. ولا يقتصر الأمر على استخدام
القمع والقوّة بشكل مباشر، وإنّما يمتد إلى إنتاج مبررات وخطابات مُؤَسّسة على
معلومات تبرر مواقفها وقراراتها. وهذه المبررات والخطابات في الغالب نخبويّة توظّف
إمكانات القوّة والمعرفة التي قد لا تكون متاحةً للناقدين وللخصوم، فتتصف مقولات
السلطة ولو ظاهريّا بالمصداقيّة والصحّة مقابل نقص المعلومات والتنظيم في الخطابات
الناقدة لها.
وفي السياقات التي يتعاظم فيها الشعور
السلبيّ في المجتمع تجاه السلطة التي تقمعه ولا يستطيع مواجهتها مباشرة، يعمل
الإبداع الجمعيّ على إنتاج نقدٍ ذي طبيعة مختلفة عن خطاب السلطة لكي لا يقع في فخّ
مقارنة خاسرة بنسبة كبيرة. فمقابل التهديد المحتمل بممارسة القوّة القامعة ضد
المنتقدين، ينتج المجتمع خطابا عامّا غيرَ منسوب لشخص بعينه، بحيث تنتفي الخصومة
أو المواجهة المباشرة، وهو ما يتحقق في خطاب
النكتة، وفق المنظور الذي يقدّمه
الأستاذ عمر الرداد في كتابه "تحوّلات النكتة المعاصرة في الأردن"
الصادر عن دار أزمنة 2020.
ويؤكّد المؤلف في دراسته أنّ النكتة،
بناءً على طبيعة فهمها التقليديّ في السياقات الثقافيّة والسلطويّة المختلفة على
أنّها كلامٌ غيرُ هادف أو جاد، متاحةٌ للتداول والنقل بشكل واسع وكبير دون التوجّس
من أجهزة الرقابة ولا الوقوع في دائرة المعاقبة. فتخالف النكتة بذلك بعدين جوهريين
في خطاب السلطة، وهما تحديد المصدر، وتقنين وسائل التداول، وهذا ينفي تلقائيّا
القدرة على مواجهة الخصوم، وفرض الرقابة على النقل والتعميم.
ومقابل ما تمتلكه السلطة من قدرة على
إقامة الدليل على ادّعاءاتها وتقديمها بشكل منطقيّ، يبيّن عمر الرداد في تحليله
لعدد من النكت المتداولة في الأردن أن النكتة لا تتطلّب إقامة الدليل ولا تحتاج
إلى البنية المنطقيّة، فهي خطاب شعبيّ عام يقوم في الأساس على إظهار مفارقات يختلط
فيها الجدّ بالهزل، ولا تهدف إلى الإقناع، وإنّما تشير إلى التناقضات والكذب وما
يدحض الخطاب السلطوي في إطار من السخرية المضحكة.
وتتضمّن النكتة جزءا محذوفا في بنيتها
النصّيّة يشير إلى المسكوت عنه في المجتمع، وهذا المحذوف مع أنّه يخلق مساحة من
الأمان من خلال البعد عن التصريح، إلا أن معرفته بين المتداولين شرط أساسيّ للفهم،
وهو ما يعطيها قيمة محليّة تعبّر عن المعاني التي يودّ المجتمع التصريح بها لولا
احتمال العقاب.
الأمر نفسه ينطبق على ذكر أسماء
الأعلام من المتنفذين سياسيّا واجتماعيّا، فذكر الأسماء قد يؤدّي إلى المثول أمام
القضاء بسبب التشهير، إلا أنّ النكتة توفّر مساحة كبيرة تمكّن المجتمع من نقد هذه
الشخصيّات وبيان خداعها بشكل مباشر، على الرغم من أنّ التصريح بالأسماء يَسِمُ
النكتة بطابع محلّي. على سبيل المثال، يذكر الرداد نكتة متداولة في الأردن عن
شخصيّة تنقّلت بين العديد من المناصب التي يحتاج كلٌّ منها اختصاصا مختلفا، وهو لا
يملك أيّا منها، فتذكر النكتة بأنّه "سوف يُعيّن رئيسا مؤقّتا للسودان"،
أو في تعديل آخر لها تناقله الناس في فترة إضراب المعلمين في الأردن بأنّه
"سوف يُعيّن معلّما في كلّ المدارس الأردنيّة".
وبينما يوضّح الرداد أن النكتة
المتداولة في أيّامنا هذه تبرز المسكوت عنه سياسيّا واجتماعيّا ودينيّا وتفضحه، لا
يتوقّف عمل النكتة عند فضح السلطات المختلفة، وإنّما يصل الأمر إلى التجاوز عن
اللغة المستخدمة في الخطابات والمقولات الرسميّة، فيتمّ تقديم النكتة في الغالب
باللغة المحكيّة، وهو ما ينسجم، من جهة، مع طبيعة تداولها غير المنظّم وغير
الموجّه بشكل مقصود بين مختلف الفئات الاجتماعيّة، ويؤكّد، من جهة أخرى، على
استخدام مستوى مختلف عن اللغة التي توظّفها السلطة الرسميّة. ولا يقتصر الأمر على
ذلك، وإنّما يبيّن الرداد أنّ التجاوز عن لغة السلطة يتجلّى أيضا في عدم تقديم ما
هو راسخ في تراث النصوص وأعراف التخاطب، من توفير مقدّمة وخاتمة، فتقتصر النكتة
بدلا من ذلك على ما يبرز المفارقة والرسالة التي تتضمّنها دون نسج أُطُرٍ نصيّة
كاملة لها. وهذا بطبيعة الحال أكثر مناسبة للخطاب الشعبيّ الذي يتمّ تناقله
شفاهيّا وعبر وسائل التواصل الاجتماعيّ.
ومن المهمّ الإشارة إلى نقطة محوريّة
يبرزها كتاب "تحوّلات النكتة في الأردن"، وهي أنّ النكتة في التداول
الحديث تعرّضت لتحوّل كبير، حيث كانت السمة المهيمنة عليها أنّها تهدف إلى الإضحاك
والسخرية، لكنّها أصبحت، مع أنّها بقيت محافظة على الإضحاك والسخرية، هادفة وجادّة
في نقد ما يُوجّه لها من خطابات وتسخيف مقولات السلطة وبيان ضعفها وضحالتها.
وثمّة عاملان تاريخيّان لذلك، الأوّل
الربيع العربيّ وتحطيمه لكثير من الأفكار الراسخة عن السلطة بمستوياتها السياسيّة
والدينيّة والاجتماعيّة، بالإضافة إلى الانتكاسات اللاحقة في مستوى الحريّات الذي
تحقق في المجتمع العربيّ بعد بداية الثورات في تونس ومصر، والثاني ما توفّره وسائل
التواصل الاجتماعيّ من سرعة وسهولة في تداول هذا النوع من النصوص، الأمر الذي وفّر
انتقالا حرّا يمكّن المتداولين من إجراء تغييرات على النصّ الأصليّ، وتحوير مجاله
الذي يركّز عليه، فيصبح المتلقي مشاركا في إنتاج النصّ، على مستوى الفهم وملء
الفراغات فيه، وعلى مستوى إعادة إنتاجه وتحويله إلى قضية جديدة، فتكون النكتة بذلك
"رهينة تداولها وليست رهينة مدلولها الأحد".