هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"لسَوادِ قهوتِكَ التِماعُ
عُيونِكَ السمراءِ حِين يَحوطُها نهران مِن شِعر التِّهاميِّ الذي جعلَ القصيدةَ مأتمًا
أو بثّ يعقوبَ النبيِّ. لِمَن تَبوحُ بمائِكَ الأنقَى وكُلُّ صِحابِكَ الأوغادِ
باعُوكَ اتِّباعًا للهَوى؟ أقلامُكَ الخضراءُ صامتةٌ ودفترُكَ اعتَلَته غشاوتان
مِن الترابِ ومِن دَمِ الوقتِ المُسَجَّى في نقيعِ الوهمِ، يتَّشِحُ الهَباءَ
مُنَزَّهًا عن وصمةِ الكلماتِ والنُّطقِ المُغَنَّى في أهازيجِ العصافيرِ العتيقةِ
مِن زمانِ براءةِ الأحبارِ مِن بَوحِ المَساءِ".
مَن المُخاطَب؟
تمثّل الفقرة السابقة من ديوان القصيدة
الواحدة (أحتسي قهوتي .. أهذي) نقطة الانطلاق التي اتَّخذَها (أحمد عايد) للرحلة
الشِّعرية القصيرةِ التي ارتحلَها بمصاحبة القهوة. ولوهلةٍ قد نتصوّرُ مُخاطَبَ
الفقرةِ هو الشاعر (طارق الصميلي) الذي خصّه (عايد) بإهداء الديوان، إلاّ أنّ هذا
الموضع هو الوحيد الذي تُنسَب فيه القهوة إلى شخصٍ غير المتكلِّم، حيث تَتابَع بعد
ذلك المواضع التي يذكِّرُنا فيها (عايد) بأنه مازال يحتسي (قهوتَه) هو:
"وربما هي قهوتي العشرونَ/ وربما هي قهوتي الخمسونَ/ وربما هي قهوتي التسعونَ".
وفيما أرى، تجسِّدُ الفقرةُ السابقةُ معاناةً مع حبسة الكاتب، فالأقلام الخضراء
صامتة، والدفترُ يعلوه الترابُ ودمُ الوقت المقتول، متَّشِحٌ بالهباء، و(منزَّهٌ)
عن وصمة الكلمات! ولعلّ مفردة (مُنَزَّه) تنقل إلينا شعورًا بالسخرية من النفس،
تتجاوبُ ونسبة القهوة في هذه الفقرة الأولى إلى مُخاطَبٍ للمرّة الوحيدة في
القصيدة، فالسخرية كوميديا، والكوميديا تتطلّب شكلاً من أشكال الانفصال
الشُّعوريِّ عن الموضوع المُضحِك لضمان إعطاء العقل حُرّيّته في الحُكم عليه
وإدانتِه والإضحاكِ منه، وبذلك تبدو نسبة القهوة إلى مُخاطَبٍ هنا ملائمةً تمامًا
لإحداث هذا الانفصال الشعوريِّ بين (أحمد عايد) المتأمِّل و(أحمد عايد) موضوع
التأمُّل. وفي إطار هذا التأمُّل يرى (عايد) في ذاتِه الشاعرة – بوصفِها موضوعًا
للتأمُّل – تأثُّرًا أصيلاً بالشاعر المصري (محمد التهامي) أحد أفراد الحرَس
القديم الذين يقدِّسُون القصيدة العموديّة بشكلِها التقليديِّ، كأنّ تراصَّ الأشطر
يكوِّن نَهرَين، ويرى (عايد) عينيه تلمَعان – في إشارةٍ إلى الزهو بالانتصار أو
بالعثور على الضالّة أو الفرَح بالجَمال – حين تُحاطان بهذَين النهرَين القديمَين.
لكن علينا ألاّ ننسَى أنّ (عايد) موضوعَ التأمُّل هنا هو مُخاطَبٌ، تفصِلُه عن
(عايد) شاعر القصيدة التي بين أيدينا هُوّةٌ شعوريةٌ ما، ولعلّ مِن آثارِ هذا
الانفصال أنّ قصيدة (عايد) المتأمِّل تختلفُ في بنائها تمامًا عن ذلك النسَق الذي
يزيد التماعَ عيني (عايد) موضوع التأمُّل، فالقصيدة الحاليّة تفعيليّةُ مُدَوَّرةٌ
لا تسكُنُ إلا مع النقطة الأخيرةِ منها!
وصحيحٌ أن الشاعر يتساءل عمّن يمكنه أن
يَبُوحَ له بمائه وسطَ أصحابه الذين "باعوه اتباعًا للهوى" إلاّ أنّ ما
يتلو ذلك من أوصاف آلاتِ الكتابة (الأقلام والدفتر) يَشي بشوقه المحموم للعودة إلى
الكتابة/ البَوح، وفي هذا السِّياق يبدو أنّ الصحابَ الذين اتبعوا الهوى ما هم إلا
شُعراءُ لديهم مشروعاتهم الشِّعرية (الهَوى)، وهم مضطَرُّون إلى خيانة صُحبة
الشاعر وفاءً لتلك المشروعات أو اتّباعًا للهوى! هل يبدو أننا نُفسِدُ الأمرَ
بحرصٍ زائدٍ منّا على التأويل؟! في رأيي أنّ الإجابةَ بالنفي، وأنّ التأويلَ هنا
هو السبيل الوحيدة – وإن كرهه الكارهون – لإدراكِ معنىً ما، لاسيّما أنّ الشاعرَ
يضفّر الصُّوَر ببعضِها تضفيرًا معقَّدًا، ولا يترُكُ لنا – بحُكم القالَب
الشِّعريِّ اللاهثِ الذي اختارَه – فسحةً من وقتٍ لإدراكِ أبعاد كُلّ صُورةٍ،
ولعلّ في تتبُّعِنا الفقرةَ السابقةَ وإحالاتها المتلاحقةِ إبانةً عن ذلك، فسَواد
القهوة يُحيلُ إلى التماع العيون السمراء، لا على إطلاقِه، وإنما حالَ إحاطتِها
بنَهريَن من شِعر التهاميِّ، ثم هو يعرّج على طبيعة مُنجَز التهاميّ شِعريًّا
"جعل القصيدة مأتمًا أو بثّ يعقوب النبيّ"، وحين يصل إلى وصف دفتره
المهجور يختار مفردة (غشاوتَين) للتعبير عّما يَرِينُ على الدفتر من غبار الهجر،
وهو ما يجعلُ العبارةَ أقرب إلى استعارةٍ مكنيّةٍ شبّه فيها الدفتر بعَينين –
لعلَّهما هما نفسهما عيناه اللتان عَهِدهما تلمعان مع نَهرَي (التهاميِّ) –
لكنّهما الآن معتمتان بفعل الغشاوتَين، وحذف المشبّه به (العينين) وترك لنا من
لوازمِه الغشاوتَين، وسريعًا ما يضفّر هذه الصُّورةَ بصورة الوقتِ المشبَّهِ
بكائنٍ حَيٍّ مقتولٍ مُسَجَّىً، وهنا أيضًا استعارةٌ مكنيّةٌ إذ تركَ لنا من
المشبّه به لازمتَي الدَّم والتسجية، ولا يلبث بعد ذلك أن يجعل هذا المقتول
مُسجَّىً في "نَقيعِ الوهم"، وهو تركيبٌ أقربُ إلى الاستعارة المكنية هو
الآخَر، ويُردِفُ ذلك بالصُّورة في عبارة "يتَّشِحُ الهَباءَ" العائدةِ
غالبًا على الدفتر، ثم تتلو ذلك الإحالات، فالكلماتُ الغائبة عن الدفتر تحيلُ إلى
أهازيج العصافير، وهذه بدَورِها تُحيلُ إلى تركيبٍ خياليٍّ في "زمان براءة
الأحبار من بَوح المساءِ". إذن، فنحن أمام مستوىً من تضفير الصُّوَر يجعل
المعنى مستغلِقًا بدرجةٍ معتبَرَة، ولا مَخرجَ له إلى نُور الفهم إلاّ بقَدرٍ من التأويل،
بشَرطِ أن يهتدي التأويلُ بظواهر النَّصِّ، أو هكذا نظُنّ!
اقرأ أيضا: وجهان مختلفان لـ"جابر بن حيان"
بين القهوة العشرين والقهوة التسعين
إذا ما ترَكنا هذه الفقرة إلى المواضع
التي يذكِّرُنا فيها (عايد) بأنه مازال يحتسي قوتَه، فسنجدُ ذلك الآخَر الذي
يُجرِّدُه من نفسِه في البداية ويجعلُه موضوعًا للتأمُّل ويخاطبُه بقَدرٍ من
الانفصال الشعوري، أقولُ سنجد ذلك الآخَر ينكمش تدريجيًّا، فبعد "وربما هي
قهوتي العشرونَ" يقول: "أشربُها بنشوتِها التي غرقت ببحر الحكمة الأولى،
سلامًا يا شهيد الليلِ، بعضُكَ حاضرٌ، وغيابكَ المَوتُورُ يبحثُ عن تفاصيلِ
الحَداثَةِ في ظَلامِ الخَيمةِ الأولى، وعن شيءٍ يَلُوحُ على بَعيدِ مسافةٍ، عن
رؤيةٍ أخرى مغايِرَةٍ، وعن ألَقٍ سماويٍّ على كَتِفِ المَلاكِ يجيءُ ملتهبًا
بسَحنتِكَ التي لا تُشبِهُ الشُّعَراءَ فِيما يَدَّعُونَ مِنَ الرُّقِيِّ
...". هكذا يَبرُزُ ذلك الموضوعُ المُتأمَّلُ هنا، فهو شهيد الليلِ لأنه
شاعرٌ ببساطةٍ، وغيابُهُ المَوتُورُ هو خصائصُه التي قد يلخّصُها افتتانُ عينيه
بالتهاميِّ في الفقرة الأولى، وهو غيابٌ يحاول ابتعاثَ ما في القالَبِ الشِّعريِّ
القديمِ (الخيمة الأولى) مِن حَداثَةٍ، إلى آخر ذلك ممّا يجُرُّنا إليه التأويل.
أمّا بعد "وربما هي قهوتي الخمسون"، فنجِدُهُ يَقُول: "أشربُها
فأَهذِي. فجأةً لا أملِكُ الفِنجانَ والبُنَّ الرَّخِيصَ، ولم أَعُد أَشرِي
كِتابًا أو جريدَتيَ الرخيصةَ، بَعدَما كُنتُ الذي قد تَعرِفُونَ."، فهو
يَرتَدُّ هُنا بالكُلِّيَّةِ إلى ذاتِه الحالِيَّةِ، ويَصِفُها وَصفًا بسيطًا
خاليًا بالفعل من صُوَرِ البَيانِ، والسببُ فيما أرَى أنّه يتحدثُ عن نفسِه وقتَ
الكتابةِ، فليس ثَمَّ انفصالٌ شُعوريٌّ، وبالتالي فليس ثَمَّ (عايد) آخَر يَصلُحُ
هنا موضوعًا للتأمُّل الحقيقي، والمحصِّلةُ أن ليسَ ثَمَّ مَجالٌ لرؤيةٍ شاعريّةٍ
تلتمسُ الحقيقةَ في خبايا العلاقاتِ بين مفرداتٍ حاضرةٍ ومفهوماتٍ مُشارٍ إليها
(الخيمة الأولى والقالَب الشِّعري القديم – شَهيدُ الليل والشّاعر، إلخ) كما كان
الأمرُ بعد القهوة العِشرين! فإذا ما وصَلنا إلى "وربّما هي قهوتي
التسعون"، فسنجدُه يُردِفُها يقولِه: "أشربُها وتَشرَبُني. وأعلَمُ أنها
كالخَمرِ تُسكِرُني، وتَجعلُني أقولُ فضائحِي شِعرًا وتجعلُني أُجاهِرُ بالخَفاءِ
وما أَرَى، لازالَ في الكلماتِ مُتَّسَعٌ لِبَوحي، لَم أَبُح إلاَ قَليلاً"
إلى أن يُنهِي القصيدةَ الديوانَ بقَوله: "هذا انتهاءُ البَوحِ بَل هذا
ابتداءُ قصائدي يا قَهوَتي." هكذا يصِلُ إلى نهاية رحلته الرُّوحيّة مع
القهوة، فبعدَ أن كان يتأمّلُ ذاتَه القديمةَ بعد فنجانه العشرين، مُرورًا بوصفِه
ذاتَه الحاليّةَ في بساطةٍ بعدَ فنجانه الخمسين، وصلَ بعد التسعينَ إلى التوحُّد،
لا مع ذاتِه الحاليّة فقط، وإنما مع القهوة نفسِها، وهو ما سَمح له بأن يتحدثَ عن
نفسِه الحاليّةِ كأنه يتحدثُ من وجهةِ نظرِ آخَر، ولعلّ هذا الآخَر هو القهوةُ
نفسُها! والخلاصةُ كما قدَّمنا، أنّ ذلك الآخَر أخذ في الانكماش كُلَّما أوغلَ
(عايد) في رحلتِه مع القهوة، فقد عادَ إلى ذاتِه الحاليّة بالكامل في نهاية
الديوان، ولعلّه بذلك قد تَمَّ له ما أرادَ من هذه التجربة المُدوَّرَة الطويلةِ
اللاهثة، حيثُ خرَجَ مِن حبسة الكاتبِ التي نفترضُها مِن بعض ظواهر مقدمةِ النّصّ،
وبعد أن ترَكَ التّداعِيَ الحُرَّ يُملي عليه فِقراتِ نصِّه، غيرَ محكومٍ إلاّ
بضروراتِ الإيقاع، تخلَّصَ مِن مرحلةِ البَوحِ ليستأنِفَ قصائدَه في ديوانٍ آخَر،
محكومةً بدرجةٍ أكبرَ من الوَعي، متروكًا فيها زِمامُ التداعي الحُرّ بدرجةٍ
أقَلَّ، وهو ما عبَّرَ عنه الختامُ في صراحةٍ "انتهاءُ البَوح/ ابتداءُ
قصائدي".
القهوةُ خَمرا.. جدليةُ الوعي
والهذيان
والحَقُّ أنّ للقهوة في القصيدة دَورًا
ملتبسًا بعضَ الشيء، فالمُنطبعُ أصلاً في وعينا الجمعيِّ عن القهوة أنّها
مُنَبِّهٌ قويٌّ للوَعي، وهو ما نَجِدُ صَداهُ في العودة التدريجيّة للشاعرِ من
تأمُّلِ ذاتِه القديمةِ (قبلَ الحبسة) إلى امتلاكِ ذاتِه الحاليّةِ والحديثِ عنها
بقدرٍ معقولٍ من الحِيادِ بعد القهوة التسعين. لكن من ناحيةٍ أخرى، ترتبط القهوةُ
في هذا النص بالهَذَيانِ، إلماحًا (بتضافُر الصُّوَر البيانية كأنّ حُلمًا يُسلِمُ
الشاعرَ إلى حُلمٍ أو هلوسةً ترمي به في أخرى في دوّامةٍ لا تكادُ تنتهي) وتصريحًا
"أحتسي قهوتي .. أهذي"، فضلاً عن تشبيهها صراحةً بالخمر وفِعلِها
المُسكِر. ولا ننسى أنّ (القهوةَ) مِن الأسماء العربية القديمةِ للخَمر، وفي هذه
المعلومة الأخيرة ما يُغرينا بالقولِ إنّ الشاعرَ في بحثه "عن تفاصيلِ
الحداثةِ في ظَلامِ الخيمةِ الأولى" – كما يقولُ – عَمَدَ إلى تلك العلاقة
العربيةِ الاسميةِ القديمةِ بين الخمر والقهوةِ ليبعثَ منها معادلاً موضوعيًّا
لمسألةٍ حَداثيَّةٍ مبثوثةٍ في هذه القصيدة، هي مسألةُ التباسِ الوَعي باللاوعي،
والصحو بالسُّكر والهذَيان. والمحصِّلَةُ أنّ هذا الالتباسَ يَجعلُ شاربَ القهوةِ/
الشاعرَ هنا يبدو كمَن يَجرَحُ نَفسَه ليَنزِفَ فيستطيع وصفَ الدِّماء وتأمُّلَها
بدرجاتٍ متفاوتةٍ مِن العُمق، وهو بالطبع لا يَفعَلُ ذلك – حسبَ افتراضِنا الأوّل
– إلاّ للخُروج مِن الحَبسَة وللتغلُّب على استعصاءِ الكِتابة. ولعلّ شاهدًا نصّيًّا
قويًّا على ذلك العَمد الذي يَطبَعُ جَرحَه لنفسِه يُطِلُّ علينا من تلك الفقرة
التي اختارَها للغلاف الخلفي للديوان: "أتوَدُّ أن تَجِدَ القصيدةَ في
جِرابِكَ هكذا كهَدِيَّةٍ؟ أينَ اجتهادُكَ في اصطيادِ الوَحيِ ...إلخ"، كما
تَلوحُ شواهِدُ أخرى على فكرةِ الجَرح نفسِها، كما في قولِه: "هذا ابتداءُ
الجُرحِ يا لَحني الوحيدَ، أنا وأنتَ على شِفاهِ النّايِ نَلفِظُ ما تَيَسَّرَ مِن
كلامِ القهوةِ السّمراءِ، تُشعِلُنا ونُشعِلُها..." إلى قوله في الصفحة
الأخيرة: "رُبَّما هذا انتهاءُ الجُرحِ يا لَحني الوحيدَ، أنا وأنتَ على شِفاهِ
النّايِ نَلفِظُ ما تَيَسَّرَ مِن كلام القهوة السمراءِ...."، فهو جُرحٌ
ممتدٌّ بطُول القصيدةِ، ممتزِجُ بذاتِ الشاعر، ينزفُ بَوحًا مِن أثَر القهوة/
الخمر.
ومِن الشواهِد النصّيّة على مسألة
الالتباس تلك وإدراكِ الشاعرِ لها، نجدُ تعبيراتٍ مثل "صَخَبُ الحقيقةِ
وَهمُها، والوهمُ فاتنةٌ تُمنِّيكَ اللِّقاءَ، ولا لِقاءَ!" فالنصّ بوصفِه
شِعرًا يُسلِمُ نفسَه إلى دوّاماتِ الصُّوَر ابتغاءَ الحقيقةِ (كما قُلنا، يبحث
عنها في العلاقاتِ الخفيّة بين المفردات وما تُشيرُ إليه خارج النص)، لكنّه مفتونٌ
فقط بما يُقالُ عن الحقيقة، وما يُقالُ هو الصَّخَب، فليسَ ثَمَّ سبيلٌ إلى تلك
الحقيقة المراوغة. وهناك كذلك شاهدٌ نصّيّ على وعي الشاعر بأنّ ما يَسوقُ نصَّه في
مُجمَلِه هو التداعي الحُرُّ، وهو تلك التعبيرات الكثيرة المحتفية بالتشظّي
والتبعثُر، كما في قوله: "مُتبَعثِرًا في آيةِ الرُّؤيا، ووحدي سُقتُ أنفاسي
إلى الأشلاءِ"، وكما في تلك الصُّورةِ البديعة التي تُبِينُ عن إسلامِه
زِمامَ النص للتداعي الحُرّ: "منذُ استعارَتني القصيدةُ في تفاصيلِ الوُجودِ،
ومُرهِقُ الأشياءِ يَلزَمُني ويَركَلُني إلى مَرمَىً بلا حَرَسٍ، أنا هَدَفٌ بسيطٌ
سائغٌ."
في تقديري أنّ الشاعر قد نجحَ في خوض
تجربةٍ شعريةٍ للتداعي الحُرّ دَورٌ فيها، وإن لم يكن مُطلَقَ اليَد تمامًا
بالتأكيد، فضرورات الإيقاع القويّ (مُتَفاعِلُن/ البحر الكامل) قد حدَّت مِن
سُلطته، وهي تجربةٌ تُعَدُّ في رأيي شاهدًا معتَبَرًا على كيفيّةٍ من كيفيّات
خُروج الشاعر مِن حبسة الكتابة، إذا صَدَقَ افتراضي الأول المُجازِفُ بالتأكيد!
وهي في النهايةِ قد قدَّمَت رحلةً رُوحيّةً لا تخلو من قيمةٍ، وهي جديرةٌ بالقراءة
بلا شَكّ.