في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مات أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة
الإسلامية (داعش)، في أثناء هجوم نفذته الولايات المتحدة شمال غربي سوريا. وبعد ذلك
بشهرين، فتك هجوم نفذته طائرات مسيرة تابعة للولايات المتحدة في بغداد بقائد فيلق
القدس قاسم سليماني.
بشكل ما، كان البغدادي وسليماني كلاهما من منتجات الوجود الأمريكي
في الشرق الأوسط. فدون احتلال واشنطن للمنطقة وسياساتها الكارثية فيها، ما كان لأي
من الرجلين أن يحققا ما وصلا إليه مؤخرا من بروز.
علاقة متبادلة
إذا كان البغدادي قد صنعه الاحتلال الأمريكي، فإن بروزه في السنوات
التي أعقبت ذلك إنما مكنت له عمليات التطهير التي كان يقودها سليماني في العراق.
وبالمثل، فإنه لولا ظاهرة داعش لما كان لسليماني ذلك الأثر الكبير على
المنطقة بأسرها. ما لبثت هذه العلاقة المتبادلة الغريبة أن شهدت إسدال الستار
عليها بالتعاقب، الأمر الذي يكاد يكون دليلا قاطعا على طبيعة السبب والأثر
المتعلق بها.
وكان وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، الذي اصطدم مع سليماني فقط
قبل شهور قليلة، قد قال بعد موت القائد العسكري إنه كان "أكبر قوة
فعالة" في الحرب ضد داعش والنصرة والقاعدة.
يدرك ظريف جيدا قيمة أن يكون المرء محاربا لتنظيم الدولة
الإسلامية، فإيران، مثلها مثل غيرها في المنطقة، على إدراك جيد بالاستراتيجية
البسيطة والمتخلفة التي تم انتهاجها في العقد الماضي. فكل ما يفعلونه
يتعلق "بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية". ما من شك في أن تلك ذراع مفيدة
في الدفع قدما نحو تحقيق الأهداف التكتيكية في أعين المجتمع الدولي.
وما أن بدأ البغدادي في الظهور على مسرح الأحداث، كان التطهير
الطائفي الذي مارسته إيران في عراق ما بعد صدام هو الذي حفزه وحفز داعش.
وكانت تلك أيضا لحظة إيران الأولى مع القاعدة.
فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وبينما كانت الولايات المتحدة
تسارع في احتلال أفغانستان ثم العراق، لاحظت إيران أن فرصة ذهبية تلوح في الأفق.
كانت أول مهمة جوهرية يكلف بها سليماني هي تلك التي أنيطت به في أفغانستان، وكانت
تتضمن "التنسيق الضمني" مع الولايات المتحدة ضد عدو واشنطن وطهران
المشترك: الطالبان. وبذلك، أطاحت الولايات المتحدة خلال أقل من عامين بعدويّ إيران:
صدام حسين والطالبان.
مرحلة تاريخية
كان زواج التوافق المؤقت هذا شبيها بعلاقة التعايش والتكافل القائمة
بين البغدادي وسليماني. لم يعترف أي منهما يوما باعتماده على الآخر، بل استمرا في
التصادم على العديد من الجبهات، يهدد الواحد منهما الآخر، بل ويتجاوزان الخطوط بشن
الهجمات الفعلية.
كان احتلال الولايات المتحدة لكل من أفغانستان والعراق علامة على بدء
مرحلة تاريخية، إنها المرحلة التي كان بإمكان إيران فيها وضع قدميها على طريق
التطبيع المحلي، من خلال تأييد مطالب الشعوب في إحداث التغيير المنشود في المنطقة.
إلا أن إيران، بدلا من ذلك، ذهبت تفسر أحداث الحادي عشر من سبتمبر على أنها إيجاد
الولايات المتحدة لعدو جديد، ألا وهو القاعدة.
بعد عقد من الزمن، سنحت فرصة جديدة مع انطلاق الثورات العربية. كانت
الحركات الشعبية في نمو، وكانت الجماهير تطالب بالتغيير، إلا أن طهران
اختارت دعم الوضع القائم في المنطقة، ووقفت إلى جانب الحكومتين في
العراق وسوريا. ولو أنها لم تفعل ذلك لربما نجم عن ذلك فرص مهمة لإصلاح ذات
بين المكونات العرقية والطائفية والمذهبية في البلدين.
لو أن إيران دافعت عن التغيير في المنطقة، لكانت ساعدت في تحقيق عملية
التحول الديمقراطي في البلدان المجاورة، والأهم من ذلك، في الداخل
لديها دون اللجوء إلى تكتيكات التخويف من الخارج. ولكانت بذلك قد خففت من حدة
التوترات الطائفية التي تستفز مكونات المنطقة بعضها ضد بعض، ولأتاحت المجال
أمام خطاب مختلف تماما في الشرق الأوسط. ولكن بدلا من ذلك، ظنت طهران أن الحكمة
تقتضي توسيع نطاق نفوذها عبر حلفائها.
موت استراتيجية الاعتماد على الوكلاء
في الأيام الأولى من عام 2020، كما كان عليه الحال على مدى العقدين
الماضيين، تجد إيران نفسها تارة أخرى أمام تقاطع طرق. على الرغم من أن إيران لديها
الخبرة الكافية فيما يتعلق بالعدوان الأمريكي في المنطقة وضد طهران، إلا أن حالة
التوتر السائدة الآن تختلف عما كان عليه الوضع في الماضي.
كانت إيران قادرة على تحمل أطول حرب تقليدية تنشب في القرن العشرين
(1980-1988)، التي وقفت الولايات المتحدة فيها إلى جانب العراق. تمكنت إيران من
تحمل عبء العقوبات الاقتصادية المدمرة. وعلى الرغم من وقوع العديد من الحوادث على
مدى العقود الأربعة الماضية، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تقع فيها مواجهة
مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران على هذا المستوى.
يمثل مقتل سليماني موت استراتيجية الاعتماد المريح على الوكلاء، وهي
الاستراتيجية التي اعتمدتها إيران لسنوات طويلة. كما يمثل أيضا رعونة الولايات
المتحدة وانعدام النظرة الجيوسياسية لدى واشنطن. لقد انفرط عقد الزواج المؤقت الذي
استمر لعقدين بين الولايات المتحدة وإيران.
تغيرت الأمور بشكل جذري منذ اللحظة التي هاجم فيها العراقيون السفارة
الأمريكية في بغداد. لم يكن صعبا التنبؤ بأن واشنطن ستركز تفكيرها على الهجوم.
وكذلك كان الحال عندما وقع الهجوم على السفارة الأمريكية في ليبيا قبل عدة
سنوات، حيث ذكر ذلك الأمريكان بأزمة سفارتهم في طهران عام 1979 عندما احتجز آلاف
الفتيان ممن يعتبرون أنفسهم أتباع الإمام الخميني اثنين وخمسين دبلوماسيا ومواطنا أمريكيا واتخذوهم رهائن.
انتقام إيران
بعيد اغتيال سليماني، بدأت الأسئلة تثار حول كيفية انتقام إيران.
ويوم الأربعاء، أطلقت إيران أكثر من اثني عشر صاروخا بالستيا باتجاه
قاعدتين عسكريتين عراقيتين تستضيفان أفرادا من قوات التحالف الذي تقوده الولايات
المتحدة، ولم يبلغ عن وقوع أي ضحايا. قال ظريف بعدها إن الضربات "أسدلت
الستار" على الرد الإيراني، ثم ما لبث الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب أن لاحظ أنه "يبدو أن إيران قد تخلت، وهو شيء جيد
للجميع".
من شأن أي انتقام إضافي أن يؤدي بسهولة إلى إشعال نيران حرب لا يمكن
لأحد التنبؤ بمداها. ونظرا لأن الولايات المتحدة هي أضخم قوة عسكرية في
العالم، وتكاد تكون في ظل قيادة ترامب بلا رؤية
جيوسياسية وليس لديها سياسة ذات معنى في الشرق الأوسط، فلا
يمكن استبعاد الأفكار التي تتنبأ بقرب انتهاء العالم.
لقد سعت إيران على مدى العقد الماضي، وخاصة بعد انطلاق ثورات الربيع
العربي، إلى تعويض جوع جيوسياسي امتد لعقود وإشباعه بالطائفية المهدوية.
يجدر بإيران، بعد تضييع ما سنح من فرص خلال العقدين الماضيين، تجنب تضييع عقد
آخر.
لو أن إيران اختارت دعم التغيير في المنطقة وفي الداخل لديها، لكنا
نشهد الآن مناخا سياسيا مختلفا جدا، إنه المناخ الذي ما كان ليوقفه أو يحطمه
صاروخ واحد تطلقه طائرة مسيرة.