هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
خلال السنوات الثلاثين العجاف من حكمه للسودان، عَمَد عمر البشير وصحبه إلى تفكيك ونسف الطبقة الوسطى، بتجريف الخدمتين المدنية والعسكرية، بتشريد مئات الآلاف من العاملين في المجالين، وكان ذلك في إطار سياسة التمكين المعلنة، والتي وبموجبها تم إحلال كوادر الجبهة القومية الإسلامية غير المدرَّبة في كل الوظائف القيادية، ثم وضع القطاعات الإنتاجية والاقتصادية تحت تصرف طبقة طفيلية، عملت على حلب ضرع البلاد الذي كان يعاني سلفا من الجفاف والتصحر، وتركزت نحو 90% من ثروات البلاد في أيدي نحو 5% من المواطنين بينما عاش أكثر من 90% من أهل البلاد تحت خط الفقر.
هجرة الأدمغة والعمالة المستوردة
إزاء حال كهذا اضطر نحو ثلاثة ملايين سوداني للهجرة طلبا لكريم العيش، وكان جل، إن لم يكن جميع المهاجرين من المهنيين والحرفيين المهرة، فكان أن وقعت قطاعات خدمية كاملة في أيد أجنبية، وهكذا صار البلد الذي أهم صادراته الكوادر البشرية، يستورد عمالة من مصر والفلبين وإثيوبيا، وهذا مجال احتكره أيضا متنفذون في حكم البشير، بل وكان معروفا أن أحد أشقائه متخصص في بيع جوازات السفر السودانية لكل راغب فيها من أبناء وبنات الدول العربية التي تشهد اضطرابات عنيفة.
اضطر نحو ثلاثة ملايين سوداني للهجرة طلبا لكريم العيش، وكان جل، إن لم يكن جميع المهاجرين من المهنيين والحرفيين المهرة
وهناك اليوم عشرات الآلاف من السودانيين يشغلون وظائف مرموقة في المنظمات والمصارف الدولية، والمؤسسات العلمية والبحثية والصناعية، وفي بريطانيا وحدها يوجد أكثر من 2500 طبيب سوداني، بينما كان عدد الأطباء السودانيين العاملين في السعودية في عام 2017 نحو تسعة آلاف.
ثلاثة من هؤلاء الآلاف التسعة العاملين في السعودية بهروا العالم خلال الأسابيع القليلة الماضية، باكتشاف عقار يصرع مرض الصرع ويمنعه من الفتك بالأرواح، لأنه ياما هناك نوبات صرع تفضي إلى الموت المعروف في الدوائر الطبية بـ"neuronal death".
أقل الناس معاناة للصرع
قبل سنوات لفت انتباه البروفيسور مصطفى عبد الله محمد صالح، وهو طبيب متخصص في شؤون المخ والأعصاب الخاصة بالأطفال، أن السودان يأتي في ذيل قائمة الدول التي يعاني أهلها من الصرع، فتساءل: ما السر في ذلك؟ إذ لا يستقيم عقلا أن السودانيين يحملون جينا يحصنهم ضد الصرع، فهم مثل جميع الشعوب خليط إثني وعرقي، وفوق ذلك فليس هناك ثمة دليل علمي قاطع على ان هناك جينا يوفر الوقاية من الصرع.
انتبه بروفيسور مصطفى فجأة إلى أن القاسم المشترك بين السودانيين ليس جينا بعينه، بل صحن الفول (المدمس بالزيت)، فالسوداني يتعاطى الفول عمدا على الأقل مرة واحدة في اليوم، فقرر من ثم قطع الشك باليقين، بإجراء بحوث وتجارب للتأكد من صدق حدسه، ومعظم الكشوفات العلمية جاءت نتيجة حدس gut feeling، أي إحساس داخلي قوي بأن الأمر كذا وكذا، وبعدها يشرع العالم في البحث والتجريب ليرى صدق أو كذب حدسه.
وقيض الله للبروفيسور مصطفى عالما سودانيا فارع القوم العلمي، هو بروفيسور علي أحمد مصطفى أستاذ علم الأدوية، فشرعا سويا في إجراء التجارب المختبرية على الفئران، والتي وعند حقنها بمادتي الستريكنين والبيكروتكسين اللتين تسببان تشنجات الصرع، ثم حقنها بمستخلص الفول مع الفاليَوم، كانت نسبة الوقاية من نوبة الصرع المفضي إلى الموت 100% .
ولما تحققا من نجاح عنصر في الفول في منع نوبات الصرع نشرا مقالا بذلك في "مجلة طب الأعصاب العالمية ـ الصرع والسلوك" التي تصدرها جامعة هارفارد الأمريكية في عام 2008 وهذه المجلة لا تنشر أي مادة تتعلق بكشف علمي ما لم تستوثق من دقتها وصحتها.
ولأن هذين الباحثين يحتكمان إلى ضوابط البحث الطبي المتعارف عليها دوليا، فقد ظلا يجريان التجارب ويتواصلان مع المؤسسات البحثية ليتحققا من صحة ما توصلا إليه وليجدا الاعتراف بالاكتشاف، ثم انضم إلى الفريق البروفيسور السوداني معتصم ابراهيم خليل، المتخصص في علم الكيمياء، وهو الذي تولى عزل واستخلاص المواد ذات النجاعة في درء تشنجات الصرع من الفول، وأرسلها إلى مختبر ألماني متخصص فنال الإجازة.
ومن طريف ما حدث هو أن بروفيسور معتصم وفور نجاحه في استخلاص المادة المطلوبة، زار بروفيسور مصطفى في بيته وقدم له مسحوق تلك المادة (بودرة)، فتذوقها الأخير بطرف لسانه وأحس بدوار (لفة راس) وهتف: يوريكا (وجدناها)، وهي الكلمة التي نطق بها ارخميدس عندما كان في حوض سباحة، وأدرك أنه توصل إلى قانون الطفو وخرج ـ قليل الحياء ـ من الحمام عاريا، وهو يهتف بتلك الكلمة، فخلّده التاريخ وغفر له قلة حيائه.
براءة اختراع أمريكية
وفي 28/5/2019 تُوجت جهود هذا الفريق بالحصول على براءة اختراع أمريكية للعقار الذي توصلوا لتركيبته، وهكذا انفتحت بوابة أمل عريضة أمام من يعانون من الصرع، تتمثل في دواء "طبيعي" يخلو من الآثار الجانبية التي تلازم معظم العقاقير كيميائية التركيب.
لن يبقى أمام ما تبقى من أصحاب العقول في السودان سوى الهجرة هربا من سطوة العجول،