الآثار ليست أحجارا رخيصة نحتتها أيادي
هُواة أو فنّانين من هذا الزمن أو ذاك،
ولكنّها مَخطوطات لسلسلة تاريخيّة ذهبيّة يُربط بها الماضي والحاضر، وتَكْتمل عبرها
حضارات الأمم الحيّة، التي قدّمت للإنسانيّة العلوم والفنون والقوانين. ومن هنا جاء
الاهتمام بالتراث والتاريخ والآثار؛ لأنها روابط متينة بين الماضي والحاضر، وبين الأجداد
والأحفاد!
حضارة الرافدين من الحضارات العريقة بين
أمم الأرض، بدءا من العصور السومريّة، مرورا بالعصور البابليّة، وحمورابي ومسلّته،
والمملكة الآشوريّة، وآشور ناصر بال الثاني، وسرجون الثاني، وآشور بانيبال، ونبو
خذ نصر الثاني، وهارون الرشيد، وبغداد ومدارسها، والبصرة وعلومها، وغيرها من منارات
الحضارة التي أضاءت للإنسانيّة دروب العلم والتطور والإبداع، وخطّت على الحجر
والورق تاريخا مجيدا لأمة حيّة رفيعة.
في منتصف العام 2016 أكدت عالمة الآثار العراقيّة
ومستشارة المتحف البريطانيّ، الدكتورة لمياء الكيلاني، أنّ "عدد القطع الأثريّة
المسروقة من المتحف الوطنيّ العراقيّ بعد العام 2003 بحدود 200 ألف قطعة أثريّة"،
فضلا عن جرائم تدمير مئات المواقع الأثريّة نتيجة العمليات العسكريّة، والتخريب
المتعمّد!
وفي وقتنا الحاضر، ومع انشغال ساسة
العراق في تقاسم الوزارات في تشكيلة حكومة عادل عبد المهدي السادسة، ما زالت جرائم
تَهريب الآثار وبيعها مستمرّة، وبصورة علنية في مزادات الدنيا!
وفي هذا الملفّ الخطير، باعت دار "كريستي"
الأمريكيّة للمزادات، في نهاية تشرين
الأول/ أكتوبر الماضي، جداريّة آشوريّة تعود لأحد أبرز حكّام العراق، وهو الملك
الآشوريّ آشور ناصر بال الثاني، (883 ق.م إلى 859 ق.م)، وذلك مقابل 35 مليونا و900
ألف دولار أمريكيّ. واللوحة "منحوتة آشوريّة عمرها 3000 سنة، وكانت في قصر ملكيّ
قديم في العراق، ومن أروع ما طُرح في السوق منذ أكثر من جيل، بمفردات الأسلوب والحالة
والموضوع"، بحسب "كريستي".
واكتفت الحكومة العراقيّة بالاعتراض على
بيع الجداريّة، مؤكدة أنها "سُرقت من العراق".
وذكرت الهيئة العامة للآثار والتراث العراقيّة
في بيان بهذا الخصوص؛ بأنه تم إجراء "عدة اتصالات مع سفارة العراق في واشنطن،
ومنظّمة اليونسكو لإيقاف البيع، لإعادة هذه القطعة النحتية المهمّة إلى موطنها الأصليّ
(العراق)".
جميع هذه المناشدات لم تأت بنتيجة تُذكر،
ودار كريستي أوضحت أنّ "المنحوتة استُخرجت بين العامين 1845 و1851 بموافقات رسميّة"،
وفي هذه الحالة فإن البيع "صحيح"؛ لأنّ اتّفاقيّة اليونسكو للعام 1970
لم تطالب بإعادة الآثار المسروقة قبل هذا
التاريخ، وهذا استثناء غريب في الاتّفاقيّة!
ومع استمرار مؤامرات استهداف آثار
العراق، ينبغي على حكومة بغداد تنفيذ الآتي:
- تشكيل لجنة مُتَخَصِّصة
لتفعيل القرارات الدوليّة الصادرة من مجلس الأمن المتعلقة بحماية الآثار، ومنها القانون
(2153)، والقانون (2199) في 2015، والقرار (3247) في 2017، وقرارات اليونسكو لعام
1970، التي ألزمت جميع الدول بحظّر التعامل أو الاتّجار بالآثار العراقيّة، وأغلبها
موجودة في أوُوبا وأمريكا الجنوبيّة.
- الدخول في
المُزايدات التي تُباع فيها الآثار العراقيّة، لإعادتها ثانية إلى المتحف الوطنيّ.
- الاستعانة بأشخاص مُتَخَصِّصين وتوظيفهم بسرّيّة لمتابعة
متاحف
العالم المختلفة، مهمّتهم التعرف على الآثار العراقيّة المسروقة بعد العام 2003،
والتدخل القانونيّ لاستعادتها من المتاحف أو المزادات مجانا؛ لأنها داخلة ضمن اتّفاقيّة
اليونسكو.
- الترتيب مع مكتب التحقيقات الفيدراليّ الأمريكيّ والشرطة الدوليّة
(الانتربول) لمتابعة تجّار الآثار العراقيّة في أنحاء العالم، وملاحقتهم قانونيا.
- دعوة العائلات العراقيّة والأجنبيّة التي تمتلك قطعا أثرية لإعادتها،
وترتيب مكافآت ماليّة ورمزيّة للمستجيبين لهذه الدعوة.
- تطوير قدرات الكوادر العاملة في هيئة الآثار لصيانة ما تضرّر من
المتاحف والمواقع الأثريّة، ويمكن الاستعانة بالخبرات الدوليّة المُتَخَصِّصة.
- تشكيل لجان أمنيّة عراقيّة لمنع خروج أيّ قطعة أثريّة من البلاد،
وبالذات عبر المنافذ الرسميّة، وملاحقة المهرّبين في داخل الوطن.
- تجفيف منابع التهريب الرسميّة التابعة للأحزاب والشخصيات المُتَنَفِّذة
في العراق. فهل يمتلك رئيس حكومة بغداد، عادل المهدي الجرأة لإيقاف تلك العصابات؟
هذه بعض السبل الكفيلة باستعادة الآثار
العراقيّة، والحفاظ على ما تبقى من إرث البلاد التاريخيّ والإنسانيّ والحضاريّ،
فهل ستجد هذه الدعوة آذانا صاغية، أم أنها صرخة في جوف اللّيل وسط الصحراء؟