بقيت المدرسة "
الواقعية" (Realism)، والتي تبني مرجعيتها على أساس أولوية
القوة ولهذا سميت أيضا "سياسات القوة" (Power Politics) التوجه الأساسي المهيمن على صانعي القرار في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومثلما صاغها منظرها الأمريكي هانز مورغنثاو، بوصفها ردا على رواج وتأثير المدرسة "المثالية" أو "الليبرالية" لأن الأخيرة "ضعيفة"، وأنها شجعت ضمنيا هتلر من خلال "معاهدة ميونيخ" على التوسع، أصبحت "الواقعية" مسيطرة خاصة من خلال مبدئها الأبسط، أي كن قويا يهابك الناس، وحينها تفرض شروطك.. وإلا فإنك ستتعرض للغزو. وأصبح العالم، سواء خلال "الحرب الباردة" أو بعدها في عصر القوة الأمريكية الأحادية تحت تأثير متعاظم، ولكن ليس أوحدا للمقاربة "الواقعية". وجود
ترامب في السلطة هو تأكيد متعجرف على أهمية "الواقعية"، لكن هل ستكون في شكلها الأخير عاملا لاستقرار النظام الدولي، أم أحد شروط دخوله في الفوضى؟
نشر الكاتب جنان قانيش، المعلق الرئيسي في جريدة فايننشال تايمز، مقالا لقى رواجا واسعا، حتى إن وكالة الابناء الصينية (Xinhua) نشرت ملخصا له بالأمس. عنوان المقال "الولايات المتحدة غير قادرة على حمل العالم فوق أكتافها". ويمضي جنان للقول: "هذه السياسة الواقعية يمكن أن تهزم نفسها. إنه يفتقد المصالح الوطنية التي تتحقق من خلال مثل هذه الأعمال عالية الأهمية، مثل اتفاقية المناخ في باريس، لكنها لا تزال أكثر تماسكا من منتقديها. غضب الليبراليون على السلطة الأمريكية حتى تراجعها، في الوقت الذي أصبح فيه حلف الناتو وتوافق واشنطن حول التجارة أسرارا يمكن إنقاذها من الأخطار الشعوبية. أما بالنسبة إلى الجمهوريين السّياسيين، على الأقل، فإن ترامب لا يدخل في إشكالية ضمنية حول الولايات المتحدة كدولة خاصة تتصدر لدعم الحرية".
ويواصل جنان: "Pax Americana ليس النظام الطبيعي للأشياء. إنها مرحلة ولدت من أكثر الظروف قسوة. استأثرت الولايات المتحدة بثلث الناتج العالمي عندما أنشأت مؤسسات بريتون وودز، وأحيت اليابان وأمّنت أوروبا. ولأن قوتها المطلقة ظلت مرعبة للغاية، فإننا ننسى أن وضعها النسبي بدأ يتراجع بعد فترة وجيزة، وتمثل الآن حوالي 20 في المئة من الناتج العالمي، وليس لديها ما هو ضروري لتسيير العالم الديمقراطي إلى الأبد. في مرحلة ما، كان الرئيس يشرح المصلحة الوطنية بعبارات أضيق".
ترامب يفعل اختياريا ما سيقوم به رؤساء المستقبل عنوة. إنه بمعنى آخر يسرع في مسار التاريخ. لكن، وكما ترى "الواقعية"، هذا المسار لا يتجه نحو "العدالة" مثلما يفكر "مثالي" مثل أوباما أو "الحرية" مثلما يعتقد بوش الابن. لا يوجد هدف في الواقعية يتجه إليه التاريخ.
يبقى أن هناك آخرين ممن يعتقدون أن ترامب وفريقه ليس لهم علاقة بـ"الواقعية". ورد ذلك في مقال شهير منذ أكثر قليلا من العام (آب/ أغسطس 2017) في دورية "Commentary"، بقلم كل من هال براند الذي يدرس في جونز هوبكينز، وبيتر فيفر الذي يدرس في جامعة ديوك، بعنوان "إنقاذ الواقعية ممن يسمون واقعيين". وجاء في المقال: "دخلت الولايات المتحدة عصر الاضطراب العالمي. لقد عادت المنافسة حول موقع القوة العظمى يضاف إليها الرغبة في الانتقام. العالم يتشاجر بسبب الصراع والفوضى، في حين أن العنف بين الدول لم يعد إلى مستويات الذروة التي شهدناها في القرن الماضي، فإن التحديات الأمنية التي تواجه صناع السياسة الأمريكيين اليوم أكبر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة. لذا، فإن الحاجة إلى نظام فكري مكرس لسياسة القوة وإقامة نظام دولي مستقر هي أمر ملح أكثر من أي وقت مضى. الواقعية، وهي مدرسة فكرية تركز تقليديا على هذه القضايا تحديدا، يجب أن تكون لها لحظة في الشمس. ومع ذلك، فإن الواقعية في أزمة حاليا".
ومن الواضح أنها واقعية بعكس واقعية الحرب الباردة لا تبنى تحالفاتها على أساس الأولوية لأنظمة سياسية شبيهة: "استرشدت إدارة ترامب بهذه المقاربة لتهمش حلفاء ديمقراطيين منذ أمد طويل في أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ، واقتربت أكثر من الاستبداد في المملكة العربية السعودية والصين والفلبين. لقد كانت لغة الجسد للرئيس وحدها مثيرة للإعجاب: فقد أظهرت مؤتمرات قمة ترامب مرارا وتكرارا التناغم مع الديكتاتوريين والأنظمة شبه الاستبدادية والتمايزات المحرجة المؤلمة مع القادة الديمقراطيين، مثل أنجيلا ميركل في ألمانيا. وبالمثل، فقد احتقر ترامب الاتفاقات والمؤسسات الدولية التي لا تحقق منافع فورية وملموسة للولايات المتحدة، حتى وإن كانت حاسمة في إقامة تعاون دولي بشأن القضايا الرئيسية أو تقدم السلع طويلة الأجل. وكما قال ترامب، فإنه معني بالترويج لمصالح بيتسبرغ، وليس باريس، ويعتقد أن تلك المصالح تتناقض بطبيعتها مع بعضها البعض".
وهذا يعني إيمانه بتناقض جوهري في النظام الغربي، ولكن ذلك إيمان "الواقعيين" خلال الحرب الباردة. وفي النهاية تحت يافظة "الواقعية" لا يدمر ترامب فقط "الواقعية"، بل يفكك عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قطعة قطعة.