أزمة الحكم في
تونس في تونس هي أزمة أولا وأساسا بين الشيخين اللذين رعيا "التوافق" في السنين الأخيرة. وإذ تبدو الأزمة على بقاء أو رحيل رئيس الحكومة، فهي في الحقيقة حول شروط اختيار رئيس الحكومة الجديد.
أصبح الرقم 64 الأكثر تداولا في الحياة السياسية في الأشهر الأخيرة، وهي النقطة الأخيرة من اتفاق "قرطاج 2" المعلق، والذي كان من المفترض أن يكون نهاية أزمة الحكم، غير أنه كان مجال تماديها وتعقدها. النقطة الأخيرة كانت حول الفيل الذي في غرفة: تغيير أو عدم تغيير رئيس الحكومة. إذ ان منطلق الخلاف داخل الحكم كان أساسا رغبة حزب النداء، وتحديدا مديره التنفيذي ابن الرئيس
السبسي إقالة ممثلهم الشاهد كرئيس حكومة.
منطلق الخلاف داخل الحكم كان أساسا رغبة حزب النداء، وتحديدا مديره التنفيذي ابن الرئيس السبسي إقالة ممثلهم الشاهد كرئيس حكومة
النقطة تنقسم إلى جزئين، ما يتعلق بـ"تغيير حكومي شامل" في إشارة إلى إقالة رئيس الحكومة، وما يتعلق بعدم ترشح أعضاء الحكومة الشاهد للاستحقاقات الانتخابية القادمة سنة 2019، والمقصود عدم ترشح الشاهد للرئاسية. حركة
النهضة عبر رئيسها أكدت دائما تمسكها بالجزء الثاني، في حين رفضت الجزء الأول، فهي السند البرلماني الأساسي للشاهد عوض حزبه. في المقابل، يتمسك حزب الأخير بتغيير شامل مع النقطة الثانية، أي عدم الترشح.
راجت بعد لقاء "الشيخين" الأخير منذ أقل من أسبوع وخروج
الغنوشي للإعلام بطلبه من رئيس الدولة "إعطاء فرصة جديدة للتوافق"؛ أخبار عن تراجع
النهضة والقبول بإقالة الشاهد. لكن لم تمر فترة قصيرة إلا وأعلن أمين عام أكبر منظمة نقابية (اتحاد الشغل)، وهي حليف أساسي لحزب النداء ولاعب أساسي ضد الحكومة الحالية ورئيسها، أن الغنوشي تمسك بشروطه القديمة. وأعلن اتحاد الشغل في هذا السياق
عددا من الإضرابات القطاعية، والأهم ضراب عام في القطاع العام، كتتويج لحملة الضغط على الحكومة ورئيسها. وتموقعت المنظمة النقابية بشكل حاسم في الصراع السياسي الحالي ضد النهضة ومع حزب النداء.
على خلفية كل ذلك، أصبح السؤال الأكثر إلحاحا: ما سر تمسك النهضة بعدم إقالة الشاهد؟ وقد تأكدت أخبار منذ أسبوع عن لقاء غير معلن بين الشاهد والغنوشي؛ تعهد فيه رئيس الحكومة الحالي بأنه لن يترشح لاستحقاقات 2019، مثلما اشترطت النهضة مقابل بقائه في القصبة. لكن هل يفسر شرط عدم ترشحه وإمكانية تعهده بذلك موقف الحركة؟
أهم عقبة لرفض قبول النهضة بإقالة الشاهد تمسك السبسي بـ"الصلاحية الحصرية" لتعيين رئيس الحكومة القادم
الأرجح حسب معطيات أخرى؛ أن أهم عقبة لرفض قبول النهضة بإقالة الشاهد تمسك السبسي بـ"الصلاحية الحصرية" لتعيين رئيس الحكومة القادم، وهذا يعني أن السبسي الذي عين واختار رئيسي حكومة سابقين، وفشل في اختياراته، سيقوم منفردا باختيار رئيس حكومة جديد يمكن أن يكون أسوأ حتى ممن مضوا.
في الحقيقة، الخلاف هنا هو حول تسيير مركب التوافق، إذ استفرد السبسي بالمقود في السنين التي مضت، في حين يسعى الغنوشي لتقاسم المقود معه في العام الذي تبقى قبل
الانتخابات القادمة، خاصة بعدما أفرزت الانتخابات البلدية الأخيرة توزانا جديدا؛ جعل النهضة الحزب الأول في البلاد.
النهضة كانت حاسمة في بيان أخير، برفضها المطلق للتمديد وحرصها على إجراء الانتخابات في موعدها للاستفادة من زخم ما بعد الانتخابات البلدية
شروط تهيئة المسرح السياسي قبل الانتخابات والاستعداد لها هي مربط الفرس. ومع هذه النقطة توجد نقطة أخرى بذات الأهمية، وهي "التمديد بسنتين" للسلطة الحالية، وهو المقترح الذي طُبخ في صمت في قصر قرطاج وبدأ يردده مقربون من السبسي، سواء أمين عام اتحاد الشغل أو حتى بعض المقربين منه من الحزب الإسلامي نفسه. غير أن النهضة كانت حاسمة في بيان أخير، برفضها المطلق للتمديد وحرصها على
إجراء الانتخابات في موعدها للاستفادة من زخم ما بعد الانتخابات البلدية.
غير أنه، بالشاهد أو بدونه، تسير الأوضاع في مسار خطير، خاصة في
مستواها الاقتصادي والاجتماعي. فكل
الأرقام سلبية، وخاصة منها الحساب الجاري للعملة الصعبة الذي أصبح أقل من 70 يوما، أي أقل بكثير من المستوى الآمن لأي دولة.
وقد أعلن "خبير اقتصادي" مقرب من حزب السبسي، وهو عز الدين سعيدان، أن الحكومة أرادت أن تجس نبض المؤسسات المالية الدولية "والخروج إلى السوق المالية"؛
لطلب قروض من أجل تغطية عجز الميزانية، فـ"اقترحوا" على الحكومة تقديم رهن عيني (مثلا أن ترهن ميناء، وإلا مطارا مثلما حدث في المثال اليوناني خلال إفلاس الدولة) للتقليص من نسبة الفائدة. وهكذا لم يعد إمضاء الدولة كافيا كضمان، لأول مرة في تاريخ تونس. هذه المرة من المرجح أن هذا الائتلاف الحاكم "سيرهن البلاد"، ولن يصبح ذلك شعارا سياسويا مبالغا فيه. بالمناسبة، سعيدان طبعا مسؤول عما يحصل؛ لأنه ممن ساهموا في ترويج وهم نداء السبسي وبرنامجه "اللي يدوخ".
الأسوأ من الفساد هو تسفيه مقاومة الفساد، وتتفيهها بملفات شبه فارغة أو مطعون فيها ومدفوعة فقط بالانتقام والانتقائية، وبالتوظيف الأرعن السياسوي لوسائل الدولة
أخيرا، وعلى خلفية الإقالات الأخيرة التي قام بها الشاهد في قطاع الطاقة، فإن الأسوأ من الفساد هو تسفيه مقاومة الفساد، وتتفيهها بملفات شبه فارغة أو مطعون فيها ومدفوعة فقط بالانتقام والانتقائية، وبالتوظيف الأرعن السياسوي لوسائل الدولة، من قضاء وأمن. وذلك (أي تتفيه مقاومة الفساد) هو الإنجاز الأساسي للشاهد. أما ابن الرئيس، فتكفل بتتفيه السياسة في ذاتها بممارسته غير العقلانية وطغيان رغباته الذاتية على أي مقترحات معقولة وواقعية، لنيتقل من أكبر المدافعين على الشاهد، إلى (وبسرعة وفي وقت قياسي) أشد أعدائه وخصومه، رغم انتمائهما لذات الحزب، وتعطيل مصالح الدولة ذاتها بسبب ذلك.