يشق الرأي العام الوطني والسياسي في تونس جدال حاد حول المبادرة التشريعية التي أعلن عنها قائد السبسي حول المساواة في الإرث. باختصار - مثلما ذكرت الأسبوع الماضي - نحن إزاء تفعيل للفصل 21 من الدستور القاضي بوضوح بالمساواة بين الجنسين. وكم من فصل دستوري، وقانون أيضا، يتباين مع نصوص قاطعة وصريحة في الشريعة الإسلامية (مثل التحريم الديني لشرب الخمر، في حين هناك منظومة تشريعية كاملة في تونس تنظم بيعه واستهلاكه) ولم نر الطرف الإسلامي يدعو لتغييرها.
المشكلة أن السبسي ومنظومة أحزابه تفعل بانتقائية بعض الفصول وتتجاهل فصولا أخرى (أهمها فصول المحكمة الدستورية والفصول المتعلقة بحماية الثروات الباطنية واللامركزية خاصة المجالس الجهوية)، فقط لغايات انتخابية. والأهم تريد أن تختبئ وراء قضايا الهوية والصراع (تقليد/ حداثة) للتغطية على فشلها الذريع الاقتصادي والاجتماعي. وربما أهم مؤشرات هذا الفشل هو الانهيار المتواصل للعملة التونسية (الدينار) أمام العملات الأجنبية، خاصة الدولار واليورو، وتداعيات ذلك السلبية جدا في مستوى التضخم والقدرة الشرائية. فهل سنرى نفس الجدال والتعبئة من الجانبين من أجل قضية المساواة بين الدينار والدولار؟
وكان المرصد التونسي للاقتصاد (مركز بحث مستقل) قد نشر في الأسبوع الأخير تقريرا حول وضع العملة والتضخم، وخاصة كيف أن منهجية صندوق النقد ورزمة تعليماته لم تنجح لإنقاذ الوضع، بل زادته سوءا. وحسب ما يذكر شفيق روين، كاتب التقرير الاخير: "ذكر صندوق النقد الدولي في آخر بيان صحفي له في 30 أيار/ مايو 2018، أن إجراء حاسما ضروريا هذا العام لمحاربة التضخم.
منهجية صندوق النقد ورزمة تعليماته لم تنجح لإنقاذ الوضع، بل زادته سوءا
في الواقع، بلغ التضخم 7.7 في المئة في أيار/ مايو 2018، وهو مستوى لم يصل إليه منذ عام 1991، عندما كانت تونس تعيش التعديل الهيكلي الشهير لصندوق النقد في إطار خطة الصندوق الموسع (1988-1992)، حينما كانت البلاد تواجه حالة إفلاس تاريخية أدت للانقلاب على حكم بورقيبة.
يذكر التقرير أن نقطة التحول الأولى في التضخم كانت في نيسان/ أبريل 2016. في هذا الشهر، كان صندوق النقد الدولي قد فرض على تونس تمرير قانون على استقلال البنك المركزي التونسي، مع المهمة الرئيسية المتمثلة في مكافحة التضخم بالتزامن مع تحرير الدينار.
تم تحقيق هذا التغيير الهيكلي في 10 آذار/ مارس 2017، وهو الشهر الذي عانى فيه الدينار من أكبر انخفاض في نشاطه، حسب نشرة البنك المركزي التي تضع السياسة النقدية الجديدة للبنك المركزي المستوحاة من أيديولوجية صندوق النقد الدولي.
ازداد التضخم في تونس بشكل رئيسي مع تحرير الدينار في نيسان/ أبريل عام 2016، وتسارع بشكل خاص بعد انخفاض الدينار في آذار/ مارس 2017
إن أيديولوجية صندوق النقد الدولي هي أن التضخم في كل مكان، ودائما من أصل نقدي، أي أنه لا يمكن أن يأتي إلا من الإفراط في توزيع الائتمان. لمكافحة هذا التضخم النقدي، حسب هذه الرؤية، يجب رفع أسعار الفائدة للحد من التضخم. الواقع في تونس، مثلما يؤكد تقرير المرصد، مختلف تماما.. ازداد التضخم في تونس بشكل رئيسي مع تحرير الدينار في نيسان/ أبريل عام 2016، وتسارع بشكل خاص بعد انخفاض الدينار في آذار/ مارس 2017. حسبنا ذلك بين كانون الثاني/ يناير 2013 وآذار/ مارس 2016، كان علاقة الارتباط بين التضخم وسعر الصرف الدينار/ اليورو منخفضا (0.25)، في حين أصبحت قوية جدا بين نيسان/ أبريل 2016 وأيار/ مايو 2018 (-0.91). هذه الأرقام تدعم تفسيرنا أن التضخم يرجع أساسا إلى تحرير الدينار، ثم إلى انخفاض قيمته، مما يزيد من الأسعار من البضائع المستوردة. كدليل على ذلك، فإن الزيادة في المعدل الرئيسي للبنك المر كزي في نيسان/ أبريل ومايو/ مايو 2017، لم يكن لها أي تأثير على التضخم.
التضخم فقط ليس نقديا، بل كذلك هو النتيجة المباشرة للسياسات التي يفرضها صندوق النقد (تحرير الدينار وزيادة ضريبة القيمة المضافة والبنزين)
في الواقع، لم يكن
التضخم مرتفعا، كما كان منذ أن طلب صندوق النقد الدولي من البنك المركزي التركيز فقط على مكافحة التضخم. وبالتالي، فإن فشل السياسة النقدية التي يروج لها صندوق النقد الدولي هو إجمالي. التضخم فقط ليس نقديا، بل كذلك هو النتيجة المباشرة للسياسات التي يفرضها صندوق النقد (تحرير الدينار وزيادة ضريبة القيمة المضافة والبنزين). علاوة على ذلك، يقر صندوق النقد الدولي في استعراضه الثاني بأن الزيادة في أسعار الفائدة ليس لها أي تأثير على ذلك الطلب على الائتمان. وفي الوقت نفسه، التضخم وارتفاع أسعار الفائدة هي الأسر التي تختنق ماليا والشركات في تونس. يصبح من الملحّ إعادة تعريف مهمة البنك المركزي بتكييفها مع احتياجات التونسيين الاقتصادية (البطالة والنمو والاستثمار)، بدلا من أيديولوجية صندوق النقد الدولي.
لعل أهم دروس الاقتصاد الأسبوع الماضي كان الدرس التركي المتعلق بضرورة التعويل على النفس والتركيز على الإنتاج الوطني والتخلص تدريجيا من منظومة الاقتراص الدولية
الحقيقة المسألة تتجاوز العلاقة بين التضخم والدينار، وتتعلق بالإنتاج ومحدوديته، خاصة في علاقة بإنتاج القيمة المضافة. وهكذا نجد أولوية لقطاع الخدمات على الفلاحة، رغم أن الفلاحة أكثر إنتاجية وأكثر مردودية بيئيا من جهة الاقتصاد المستديم. وقد بلغت مداخيل الفلاحة حتى تموز/ يوليو هذا العام؛ 2800 مليار دينار تونسي، في حين لم تتجاوز مداخيل السياحة 1200 مليار.
ولعل أهم دروس الاقتصاد الأسبوع الماضي كان الدرس التركي المتعلق بضرورة التعويل على النفس والتركيز على الإنتاج الوطني والتخلص تدريجيا من منظومة الاقتراص الدولية التي ستجعل اي تدخل سياسي باليات الضغط الاقتصادي ممكنة في اي وقت. وهذا موضوع استراتيجي لا يتعلق برد فعل آنية وظرفية.