عبد المنعم أبو الفتوح تجربة سياسية وإنسانية يمكن أن تختزل تجربة جيل بأكمله من الإسلاميين، من الجماعة الإسلامية، إلى الإخوان، ثم إلى مصر القوية بعد ثورة يناير، ومن الأفكار الدينية الراديكالية إلى الإصلاحية المحافظة إلى الرؤية الاسلامية التقدمية (بوصف فهمي جدعان)، ومن أوهام الأيدولوجية إلى الانشغال بسؤال المعرفة الدينية والتعامل مع السياسة بوصفها شأنا دنيويا وأخلاقيا، بالأساس.
أبو الفتوح حالة، مشكلته مع الجميع أنه أراد أن يكون "نفسه".. سياسي ويريد أن يكون نفسه؟ نهاره أسود، مكانته في الجماعة الإسلامية لم تكن تسمح له بالمغادرة، لكنه تركهم غير مأسوف عليهم، مكانته في الإخوان كانت أكبر من أن يضحي بها ليبدأ من جديد وهو على مشارف الستين، لكنه فعل ببساطة، وذهب بالفعل ليبدأ من جديد، أبو الفتوح يتغير كل يوم، يتغير مع كل سطر يقرأه، وكل حدث يمر به، يتطور كما لم يفعلها سياسي في جيله، من قبل، ولذلك يصعب على من عاشوا وماتوا وتعفنوا على ما هم عليه؛ أن يفهموا أبو الفتوح، كما يصعب على جماهير تعودت أن يكون خبز يومها في الدين والسياسة والمجال العام؛ الكذب والنفاق والرياء، أن تصدق رجلا قرر أن خوض مغامرة الصدق الجنونية، فالصادق متغير، متناقض، متجدد، مرتبك، أما الكاذب فيبدو أكثر ثباتا ومن ثم جاذبية!
أبو الفتوح متهم بانتهاج العنف من قطاع في التيار المدني؛ آسف أن أقول إنه لم يقرأ سطرا في تاريخ الحركات الإسلامية، لكنه يأخذهم بالشبه، بالفهلوة المصري، "بالفكاكة كده".. إسلامي، يعني محافظ، يعني متطرف، يعني إرهابي يعني بن لادن، والعاشق في جمال النبي يصلي عليه.. أبو الفتوح الذي ترك الجماعة الإسلامية لانتهاجها العنف متهم بما تركه!
الإخوان يمكنك اختزالهم قبل يناير في العزلة والاستعلاء، وإلى الآن، معظم مشاكلنا معهم، ومشاكلهم مع الجميع، وربما مع أنفسهم، هي أنهم يريدون حكم مجتمع لا يعرفون عنه شيئا، وناسا يمارسون عليهم أعلى درجات الاستعلاء، بدعوى أنهم الأفضل والأكثر تدينا!
أبو الفتوح تحديدا لم يكن يوما كذلك، انتماؤه للإخوان انحياز سياسي ليس بالضرورة أنه يختزل صاحبه.. أبو الفتوح كان على الدوام جزءا من الحركة الوطنية المصرية، وشريكا في فعاليتها السياسية والحقوقية والإغاثية، ومعارضا مصريا ينتمي إلى جماعة الإخوان، وليس إخوانيا جرى توزيعه على فصول المعارضة!
أبو الفتوح تطور مع تطور الفكر الإسلامي ذاته، وتجاوز كثيرا من الأفكار السياسية الباهتة، وحاول أن يستخدم منصبه في جماعة الإخوان لتطوير الجماعة وشبابها وتحويلها إلى رقم في معادلة التقدم على المستويين الوطني والديني، إلا أن جماعة إخوان خيرت كانت أقوى وأكثر غلبة، تساندها دولة يهمها أن تظل كبرى الحركات الإسلامية على حالتها البائسة، وسياق عالمي كامل يستثمر سياسيا في الأصوليات. ترك أبو الفتوح الجماعة التي كان نظريا الرجل الثاني فيها؛ فيما كان عمليا يكافح على يسارها لانتشالها من غيبوبتها العميقة؛ ولم تفلح حتى ثورة يناير في أن تفعله. رحل مع من رحلوا، وعاد ليحاول من جديد!
أبو الفتوح الآن عجوز ستيني، بقلب شاب يتجدد كل يوم، خاض معركة الرئاسة، وأسس حزبا وتيارا سياسيا ولد من رحم الثورة، وأنسجته مراراتها وهزائمها.. انحيازات ليبرالية في المجال العام، أقرب إلى الاشتراكية الاجتماعية في أفكاره الاقتصادية، متصالح مع دينه، وتاريخه وحضارته، ودوائر انتمائه الفرعونية والعربية والإسلامية. لديه معركة حقيقية وواضحة ولا ميوعة فيها (كما ادعى إعلام النظام وردد من ورائه بكل أسف بعض المحسوبين على الثورة) مع الاستبدادين الديني والسياسي. يعترف بدور الدين في المجال العام، لكنه لا يرى فيه عصا لتأديب المارقين عنه أو عن السلطة على حد سواء. يزعم أصحاب أبو الفتوح، وهذا حقهم، أن هذه التركيبة هي الأقرب للمزاج المصري، والأقدر على معالجة المشكلة.. ربما تتفق معهم وربما لا، براحتك، إلا أن الإصرار على تشويه رجل والتربص به ونعته بالإرهاب تارة، وبالانقلابي أخرى، بالإخواني المتخفي تارة، وبالعلماني الكافر أخرى، كل هذا العبث والبؤس لا ينم إلا على إصرار دوائر ليست بالقليلة، في المجالين الإسلامي والعلماني في مصر؛ على تعظيم قيمة النفاق ومجاراة السائد والرائج، بوصفها المحدد الأساسي لبقاء واستمرار أحدهم في المجال السياسي أو الديني، دون أن يكون محل استهجان الجميع ورفضهم وتخوينهم وتكفيرهم على الجانبين!
أبو الفتوح هو أبو الفتوح، هو نفسه، تجربته، ثقافته، سياقه، أخطاؤه التي لم ينكرها يوما وكان أول من كتب عنها وعن تجاوزه لها، ومنجزه الذي لا ينكره سوى من لا منجز له ويكره أن يكون للناس قيمة وهدفا وإنجازا خارج إخفاقاته. ولهذا أحبه وأحترمه وأدعمه، وإن اختلفنا كثيرا، فقد علمتنا التجارب المريرة أن السياسي الشريف مثل الغول والعنقاء والخل الوفي، متى وجدته، "كلبش" في أمه، فلن تجد غيره، وإن شبه لك!