هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كتبت منذ اشهر قليلة مقالا في عربي 21 حول "المساعدات الامريكية لتونس وشروطها السياسية" عن تأثير وجود ترامب في البيت الابيض، وهو الذي ابدى طيلة حملته الانتخابية دعما واضحا للتجارب الاستبدادية العربية واحتقارا لحق العرب في الديمقراطية، على الموقف الامريكي تجاه تونس وتجربتها الديمقارطية. وقد هلل انصار الاستبداد لصعود "ابو علي ترامب" كانه تحقيق لثأر شخصي واعتبروا صعوده نهاية اي تجربة ديمقراطية عربية.
كان معيار تقدير هذا التأثير من عدمه ببساطة مآل ميزانيات الدعم المالي والاقتصادي والعسكري. وما حصل خلال الصيف هو ان ترامب والبيت الابيض ارسلوا ميزانيات اقل من العادة لبلد مثل تونس. ونقلت مصادر امريكية حينها ان التخفيض "يقرب من 200 مليون دولار في المساعدات الاقتصادية للأردن وتونس". في حين في سياق النقاش بين المؤسسات الامريكية بين وزارتي الخارجية والدفاع من جهة والكونغرس من جهة اخرى اصبح الدعم على العكس اكثر من العادة. ومثلما اشرت في المقال المشار اليه اعلاه: "ففي حين أن إدارة ترامب قد سعت إلى خفض بنسبة 61 بالمئة على طلب العام الحالي (من 140.4 مليون دولار إلى 55 مليون دولار)، فإن مشروع قانون مجلس النواب بدلا من ذلك يخصص "لا يقل" عن 165.4 مليون دولار لتونس. ويشير البعض إلى أن حضور الجنرال ماتيس مع قيادات عسكرية رئيسية اللقاء مع الشاهد مؤشرا واضحا على أن البنتاغون على الأقل يبدو منفتحا على التفاوض حول تقليص المساعدات العسكرية."
كان ذلك مثالا مصغرا اخر على ان تأثير ترامب الشخصي في السياسة الخارجية محدودا بالمؤسسات التقليدية القوية ولا يمكن ان يكون مطلقا مطلقا.
وتأكد هذا التوجه في زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان الى تونس في بحر هذا الاسبوع. وفي ندوة صحفية عقدها بالمناسبة، أكد المسؤول الأمريكي أن "تونس شريك وثيق للولايات المتحدة التي قال إنها تعتز بمعاضدة جهود التونسيين لتحسين الأمن وتطوير المؤسسات والممارسات الديمقراطية ودعم النمو الاقتصادي فضلا عن تعزيز الاستثمارات الأمريكية في تونس هذا العام ورفعت من مساعدتها الإنمائية والعسكرية بنسبة فاقت 30 بالمائة عما كانت عليه سنة 2016 لتبلغ 205.4 مليون دولار".
وأفاد نائب وزير الخارجية الأمريكي "أن لقاءاته في تونس مع كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الشؤون الخارجية تناولت الإصلاحات الاقتصادية ومختلف تدابير مكافحة الفساد التي تعمل الحكومة على تنفيذها مبرزا أنها ستساهم في الرفع من النمو الاقتصادي والازدهار وتطوير العلاقات التجارية ودعم الاستثمارات الأجنبية في تونس إضافة إلى نفاذ أوسع للسلع التونسية في الأسواق الخارجية".
يبدو هذا التوجه متناسبا تماما مع تقرير مؤسسة هودسون الامريكية المحافظة بعنوان "استراتيجية أمريكية جديدة لدعم الديمقراطية التونسية المتعثرة" (أوت 2017) تحرير كل من ايريك براون وصاموئيل تادروس. والذي تضمن دعوة للتركيز على دعم امريكي قوي اقتصادي لتونس. حيث ورد فيه مثلا ان "على الولايات المتحدة أن تقدم الدعم التقني والتحليلي والسياسي للحكومة التونسية وجهود المنظمات غير الحكومية لمكافحة الفساد. وقد يتخذ ذلك شكل حملة منسقة مع الحكومة ووسائل الإعلام والشركاء من القطاعات الأخرى الذين يدركون أن الفساد قضية أمنية وطنية تقوض الحكومة الجمهورية".
ويضيف التقرير: "ينبغي تصميم وتقييم جميع برامج المعونة الاقتصادية الأمريكية المباشرة، سواء كان الهدف منها تعزيز التمويل الصغير أو تنظيم المشاريع، في ضوء الهدف السياسي المتمثل في الحد من الميل الضار "لسياسة الآلات". ومن الأمور الحاسمة بالنسبة للحيوية الاقتصادية للبلد تطوير ثقافة تنظيم المشاريع التي تشجع الشباب التونسيين على خلق فرص عمل خاصة بهم. وإبرام اتفاق تجارة ثنائية كاملة بناء على البرامج التي بدأت تحت إشراف الرئيس أوباما، بما في ذلك صندوق ريادة الأعمال الذي يوفر رأس المال لبدء المشاريع الشباب التونسيين. ويعتزم صندوق المشاريع الأمريكية التونسية، الذي تديره الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، استثمار 100 مليون دولار في مختلف الصناعات وعبر المناطق الجغرافية داخل تونس على مدى عشر سنوات تنتهي في 2027".
لكن تركيز التقرير يبدو على الشأن السياسي وهو الامر الذي يحتل معظم صفحاته واتى فيه على وجه الخصوص: "يجب أن يكون التواصل مع النهضة ودعم تحولها المستمر من حركة إسلامية إلى حزب ديمقراطي مسلم أولوية رئيسية طويلة المدى في الولايات المتحدة. ولذلك يجب على الولايات المتحدة أن تستغل الفرص المتاحة لديها الآن لتوليد جيل جديد، وتعزيز الاتجاهات الديمقراطية والتعددية في النهضة، ومحاولة إضفاء الطابع المؤسسي عليها".
ومن جهة اخرى يشير التقرير: "وبالمثل، يجب على الولايات المتحدة ألا تهمل الجهات العلمانية المتنوعة في تونس، ولا سيما تلك التي تتقاسم مبادئنا الجمهورية الأساسية. وعلى الولايات المتحدة أن تعمل مباشرة مع نداء تونس لتشجيع العمليات الديمقراطية الداخلية وتكريم إنجازاتها وجهودها الرامية إلى إقامة ديمقراطية مدنية. إن استمرار هذا التطور وتطور السياسة العلمانية أمر حيوي بالنسبة للديمقراطية التونسية كطور النهضة".
ويختم خاصة: "ينبغي للإصلاح أن يعزز تعليم اللغة الإنجليزية من خلال النظام التعليمي الرسمي ومن خلال مصادر خارجية مثل أمديست. وهذه البرامج ضرورية لاجتذاب المزيد من الاستثمارات المتعددة الجنسيات، كما أنها ضرورية لفتح تونس أمام التبادل الأكاديمي الدولي والسياسة والتجارة".
الامر الثالث الذي يتم التركيز عليه في التقرير هو الجانب العسكري حيث يقول كاتبيه: "ينبغي استخدام السمعة المعززة للجيش التونسي كوسيلة للتكامل الوطني من خلال فتح الفرص أمام التونسيين من المناطق الجنوبية المهملة في البلاد. كما يمكن للولايات المتحدة أن توفر المزيد من الفرص للضباط التونسيين للدراسة في الولايات المتحدة. ولكن الأهم من ذلك أن هناك حاجة إلى جهد رسمي وشامل لإصلاح تدريب الموظفين داخل تونس. لهذا، يحتاج تعليم الضباط إلى التأكيد ليس فقط العمليات العسكرية المعقدة في البيئات الحضرية والمناطق الداخلية، ولكن أيضا سيادة القانون والاقتصاد التكتيكي".
لم يؤثر وجود ترامب في البيت الابيض في تقليص "الدعم الامريكي للتجربة الديمقراطية". لكن افاق هذا الدعم يبدو محكوما ببديهيات مثيرة للجدل اهمها اولوية النزاع العلماني-الاسلامي واعتبار القوى التي تعبر عن المنظومة السابقة "قوى علمانية" وتجاهل الصراع بين القوى القديمة والاخرى الجديدة، وخاصة الصراع بين القوى الداعمة للفساد والاخرى المكافحة له، ومن ثمة تجاهل الخلفية التاريخية للمرحلة الراهنة اي مرحلة "ما بعد ثورة". هذا التهميش للصراع الاجتماعي بين القديم والجديد هو مأزق القراءة الامريكية لتونس.