توافق التونسيون على مصطلح “الحرقة” لوصف الهجرة السرية أو غير القانونية. يعكس ذلك اللاوعي الجمعي حول نظرة التونسيين لهذه الظاهرة. إذ يمس أكثر من معنى: من تخطي القانون أو “حرقه”، وما يتعلق به من تخطي للحد والحدود، لكن يتجاوز في رأيي ذلك إلى حرق العلاقة مع الدولة، والتعبير الأمثل على احتراق العقد الوهمي بين “دولة الاستقلال” وفشل مشروعها في أعين أجيال، لم تعد ترى في الوطن إلا محرقة لأحلامهم. نتذكر هذه الحقيقة المؤلمة بشكل دوري عندما يغرق بعض عشرات من الشباب التونسيين في عرض البحر؛ بين السواحل التونسية وجزيرة لامبيدوزا الإيطالية، المحطة الأولى للقادمين في القوارب الهشة. وهو ما حدث هذا الأسبوع عندما مات وفقد عشرات التونسيين من “الحراقة”، غير أن هذه المرة حادثة الغرق تمت إثر “اصطدام” المركب مع خافرة جيش البحر التونسي، وما تلاها من شهادات لبعض الناجين حول أن الاصطدام كان “متعمدا”. شبهة الحرق هذه المرة تتجه نحو الدولة ليس رمزيا فقط كما في السابق بل فعليا وعمليا.
الحقيقة لم يكن هذا حال العشريتين الأوليين للدولة الوطنية. ففي الستينيات والسبعينيات لم يكن يحتاج التونسيون “الفيزا” للسفر إلى الشمال الأوروبي، وكان من يسافر منهم محدودا، ويقتصر أساسا على فئتين: أولا عملة البناء الذين شكلوا جيش البنائين الذي أعاد بناء أوروبا وخاصة فرنسا، وهو من الجهات الريفية الداخلية وغالبيتهم لم يصطحب عائلاتهم في البداية، والفئة الثانية هي فئة الطلبة المغامرين المشدودين لأجواء المغامرة، أو المعاينة المباشرة للحركات السياسية والفكرية في أوروبا، خاصة من فئة اليسار الجديد. كان سلم الارتقاء الاجتماعي عبر التعليم مفتوحا، وكان الأمر معكوسا حيث كانت الجامعات تفرض على طلبتها الالتزام بالعمل بعد التخرج؛ حيث كان الفراغ الذي تركه الاحتلال الفرنسي في الوظيفة العمومية يستوجب ملأه بالأجيال الجديدة من التونسيين.
كان العقد الاجتماعي بين الدولة وهذه الأجيال مقبولا مع السياسة المعتمدة في مجانية الصحة والتعليم واقتصاد يعطي أولوية للطبقة الوسطى، رغم أن العقد السياسي كان معطوبا لمصلحة دولة فردانية استبدادية، لا تسمح بالتداول السلمي على السلطة. بدأ الوضع في الانخرام مع النصف الثاني في السبعينيات وبروز المؤشرات الأولى على سياسة “الاقتصاد الحر” للهادي نويرة وحصول أول اصطدام اجتماعي كبير منذ الاستقلال من خلال الإضراب العام في يناير/جانفي 1978.
بدءا من الثمانينيات بدأ السلم الاجتماعي يضيق ونسب البطالة ترتفع، وبدأ العقد الاجتماعي يتعطل ويهترئ، وبدأت “العلاقة مع الوطن” تتغير، ومن هنا بدأ التلهف لمغادرة البلاد وأصبحت نية البحث عن آفاق الارتقاء الاجتماعي خارجها تتعزز. أصبح البقاء في الوطن شيئا فشيئا لجحافل الشبان العاطلين عن العمل، مرادفا للركود واحتراق الزمن والإعمار. ومن هنا أصبحت “الحرقة” حلمهم، الذي يقوى مع كل سيارة بلوحات أوروبية، تعود إلى البلاد ويقودها شاب حرق وعاد محملا “بأوراقه” الرسمية يستعرضها جميعا أمام أبناء جيله.
انتقلنا إثرها خاصة في السنوات الألفين إلى اختصاص و”بيزنس”، وانطلقت الشبهات تشابك مصالح “الحراقة” والمستفدين منها من أعوان وغيرهم، يغضون الطرف إذا أتتهم مصلحة مادية وراءها. ونحن إزاء مواسم حرقة تتزايد فيها تشابكات مصالح المستفيدين. ومعها تتزايد مخاطر الغرق. وهو ما حصل إثر الثورة إثر انهيار القوات الحاملة للسلاح، خاصة منها المعنية بحراسة الحدود البحرية.
لكن ما حصل منذ بداية شهر سبتمبر ملفت للانتباه. وأفاد الناطق الرسمي باسم المنظمة الدولية للهجرة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، فلافيو دي جياكومو، أن نحو 1400 مهاجر غير نظامي وصلوا إلى السواحل الايطالية خلال شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، في ارتفاع ملحوظ لأعداد الوافدين غير النظاميين على السواحل الإيطالية منذ ثلاث سنوات.
ونقلت وسائل الإعلام التونسية عن المتحدث، أول أمس الخميس، خلال أشغال اليوم الثالث من دورة لتكوين المكونين في مجال الهجرة انتظمت بالعاصمة لفائدة عدد من الإعلاميين، أن الفترة الأخيرة شهدت ارتفاعا ملحوظا في نسق تدفق المهاجرين التونسيين غير النظاميين إلى إيطاليا؛ إذ وصل عدد المهاجرين الذين بلغوا السواحل الإيطالية منذ 1 كانون الثاني/جانفي 2017 وإلى حدود 30 أيلول/سبتمبر الماضي نحو 2700 مهاجر، بالإضافة إلى بعض المئات ممن التحقوا بإيطاليا خلال الأيام الأولى من شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وغيرهم ممن لم تحصهم فرق الرقابة على السواحل، وتسربوا بين سكان المناطق التي قصدوها.
لكن الأهم من كل ذلك، هو تساؤل جياكومو عن أسباب العودة المفاجئة للمهاجرين المتجهين إلى مدن الجنوب الإيطالي، وخاصة من سواحل جزيرة قرقنة من ولاية صفاقس، مشددا على أن السلطات الإيطالية غير قادرة على ترحيل الوافدين عليها من تونس إلا بمعدل 30 مهاجرا غير نظامي في الأسبوع، وذلك وفقا للاتفاق المبرم مع الجمهورية التونسية، في حين يدعى الباقون إلى الرحيل الطوعي مما يخول لهم التسرب في المجتمعات الأوروبية دون تسوية وضعياتهم. بين المتحدث باسم المنظمة أنه في سنة 2016 تم إحصاء 132.069 مهاجرا، وتسجيل 3073 وفاة جراء الغرق. وأكد أن سياسة غلق الأبواب أمام الهجرة النظامية التي اتخذتها دول الاتحاد الأوروبي لا تخدم مصلحتها، خاصة أن 23 بالمائة من القوى العاملة فيها ستحال بحلول سنة 2050 على التقاعد، مما يجعلها في حاجة إلى اليد العاملة.
في كل الحالات علينا أن نسأل السؤال الأساسي الآن: هل أن ما حدث هو تواطؤ رسمي لترك الحبل على الغارب طيلة شهر أيلول/سبتمبر، خاصة من ساحل العامرة في ولاية صفاقس، حيث نقلت لي مصادر أثق فيها أن شبكة التسفير للحارقين أصبح يشرف على تأمينها ملاحون محترفون، يقضون أوقاتا قياسية تصل إلى 16 ساعة بين ساحل صفاقس ولامبيدوزا. هل حدث انفلات وبالتالي احتجاج أوروبي، مما أدى إلى اضطراب السلطات التونسية وتضارب بعض الشبكات المرتبطة ببعض موظفيها، لتتصرف بشكل متوتر أدى لإغراق أحد المراكب؟ هذا ما يستوجب التحقيق وليس فقط حادث الاصطدام.
في كل الحالات نحن إزاء عملية إحراق لجيل يختزن الاحتجاج وتنظر إليه الدولة كخطر محتمل، هو تصدير لعرض البحر ومخاطر لقنابل موقوتة، وإغراق لأحلام أجيال من المعطلين. وفي كل الحالات نحن إزاء جريمة دولة تتجاوز طرفا سياسيا بذاته.