توجد أمثلة كثيرة يمكن استحضارها عندما نرى دولة مثل العربية السعودية تقطع علاقتها بدولة أخرى على أساس اتهام تلك الدولة بالإرهاب، وخاصة عندما يشير ترامب في إحدى تغريداته على تويتر إلى السعودية والإمارات، بأنهما وجهتا إصبعيهما إلى قطر عندما تم طرح موضوع "تمويل الإيديولوجيا المتطرفة"، أو الأدهى أن تصدر السعودية "قائمة في الإرهابيين والكيانات الإرهابية"، وبعض تلك الأمثلة بذيء إلى حد لا يمكن كتابته في هذا المقال. سأكتفي هنا بالمثل المعروف: "من بيته من زجاج لا يرمي الآخرين بالحجر".
ارتكزت حملة قطع العلاقات مع قطر التي قادها بشكل خاص الحلف السعودي-الإماراتي على ثلاثة "اتهامات" أساسية: دعم حركة حماس، والتساهل مع إيران، و"دعم الإرهاب". في التهمتين الأوليين نحن بصدد محاولة فرض وصاية على السياسة الخارجية القطرية، التي اختلفت في مسارها منذ منتصف التسعينيات عن مسار "الأخ الخليجي الأكبر". كشفت تهمة "دعم حماس" نفس القاموس الذي ارتكز عليه النظام المصري، ووضح تماهيا بين هذا الحلف والخط الاستراتيجي الإسرائيلي، حيث انتقل هذا التماهي من مستوى السياسة العملية إلى السياسة الرسمية. في الموضوع الإيراني، وإن لم تكن قطر حليفة لإيران، فإنها تميزت مع سلطنة عمان والكويت بدرجة ثانوية بسياسة لا تتذيل للخط السعودي-الإماراتي الذي حول الصراع مع إيران من صراع مصالح وتنافس، إلى صراع وجود يتجاوز صراع الوجود التاريخي مع العدو الإسرائيلي. وهنا تعبير عملي على التماهي مع الاستراتيجية الأمريكية.
يبقى أننا نحتاج التوقف بشكل خاص عند تهمة "دعم الإرهاب" خاصة عندما تأتي من العربية السعودية. إذ إن المشبوه الأساسي في دول الخليج عندما يتعلق الأمر بدعم إرهاب الجماعات، خاصة عائلتي القاعدة وداعش فلا يمكن التفكير بعيدا. وهنا من الضروري التمعن بشكل خاص في قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" (Justice Against Sponsors of Terrorism Act) المعروف اختصارا (JASTA) الذي مرره الكونغرس الأمريكي بغرفتيه العام الماضي رغم فيتو الرئيس أوباما، ورغم التهديدات السعودية وتفعيل جميع وسائل قوة اللوبي السعودي في واشنطن.
القانون هو محصلة جهود طويلة لمحامي عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر، ثمة لتحالف واسع من نواب الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، يسمح لملاحقة مواطنين أمريكيين لدولة أجنبية غير مصنفة في قائمة الإرهاب التابعة للخارجية الأمريكية في قضايا تخص الإرهاب على الأراضي الأمريكية. ورغم أن القانون لا يشير إلى أي دولة بعينها، فهو يستهدف أساسا السماح لعائلات الضحايا لمقاضاة العربية السعودية كدولة في علاقة بهجمات تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر. أساس هذا التركيز الخاص ليس على متهمين سعوديين، بل على الاشتباه في تورط السعودية كدولة هي "28 صفحة" وهو عنوان وثيقة تضم 28 صفحة، تمثل جزءا من القسم الرابع من تقرير الكونغرس حول هجمات 11 سبتمبر، تم شطبها وأصرت إدارة بوش الابن آنذاك على حذفها بدواعي الأمن القومي.
حدث إثر ذلك صراع خفي في أروقة الكونغرس لنشر الوثيقة، وصراع مسترسل مع الإدارة التنفيذية التي كانت ضد نشرها؛ لأنها تتضمن قرائن (في أقل الحالات إن لم تكن أدلة) على تورط مسؤولين سعوديين في أعلى هرم السلطة في شبكة دعم مالي ولوجستي، سهلت قيام عدد من إرهابيي 11 سبتمبر في إنجاز مهمتهم.
من بين النقاط المركزية في الوثيقة، دور مؤسسة "الحرمين" السعودية. تم تأسيس الأخيرة في بداية التسعينيات في سياق ترسخ دور النخبة الدينية الوهابية في أوساط الحكم، في إطار مواجهة تهديد "السلفية الجهادية"، الابن الضال للإستبليشمنت السعودي، خاصة عند قدوم قوات التحالف الثلاثيني وغزو العراق في حرب الخليج الأولى، وتركيز قواعد أمريكية على الأراضي السعودية. كانت أحد المكاسب الجديدة للنخبة الوهابية، هو إقامة مؤسسة دولية "خاصة" في الظاهر، يبقى أنها تحظى برعاية مباشرة وتمويل من الحكومة السعودية، تعنى بنشر العقيدة الوهابية عبر أنحاء العالم وتحظى بغطاء رسمي، بل أيضا ديبلوماسي سعودي. وقد رصدت أجهزة الاستعلامات الأمريكية أن نشاط "الحرمين" في عدد من الدول منها الإفريقية، كان يمول بشكل أو آخر تنظيمات تتبع القاعدة، وهو ما أدى لحظرها من قبل الحكومة السعودية نفسها إثر هجمات 11 سبتمبر.
نقطة مركزية أخرى وردت في وثيقة "28 صفحة" هو دور عدد من الشخصيات السعودية ذات العلاقة بالدولة مع عدد من الخاطفين. من بينهم المدعو عمر البيومي الذي تشتبه فيه أجهزة الاستعلامات الأمريكية بأنه عميل للمخابرات السعودية، الذي كانت علاقته وثيقة على الأقل بخاطفين من المتهمين في هجمات 11 سبتمبر، وهما السعوديان خالد المحضار ونواف الحازمي، إذ وفر لهما دعما مباشرا وحضر أحد لقاءاته موظف في القنصلية السعودية في كاليفورنيا. وكان البيومي يتلقى أجرا شهريا من شركة سعودية تنشط في الولايات المتحدة، اشتبه في علاقتها بأسامة بن لادن والقاعدة. من بين الأسماء الأخرى الواردة في التقرير هو الشيخ الثنيري الذي كان مرتبطا بقسم الدعوة الوهابية، التابع للسعودية في الولايات المتحدة، من خلال دوره كإمام في مسجد الملك فهد في "كولفر سيتي" في كاليفورنيا، حيث التقى هو أيضا بالخاطفين المحضار والحازمي.
سواء عبر الدعم المالي أو التحريض الإيديولوجي تشير وثيقة "28 صفحة" إلى قرائن قوية حول التقاطع بين الدولة السعودية وأوساط تتبع أو قريبة من القاعدة. وهذا التقاطع لا ينفي وجود صراع بين الحكومة السعودية والقاعدة؛ إذ نحن إزاء علاقة غامضة معقدة ترجع أصولها إلى تأسيس القاعدة نفسها على الحدود الباكستانية الأفغانية، عندما نزلت الحكومة السعودية بثقلها لدعم "الجهاد الأفغاني"، وحيث نشأت أسطورة ابن لادن نفسه؛ هذه العلاقة التي تتراوح بين العداء والتقاطع حسب الظروف والمتغيرات طيلة الأربعين سنة الأخيرة.